في مايو من عام 1983 أي بعد أحد عشر شهراً من الغزو الإسرائيلي للبنان, توسط "جورج شولتز" وزير الخارجية الأميركية حينها في إبرام اتفاق مبدئي مع الحكومة الإسرائيلية, طالب بانسحاب القوات الإسرائيلية والسورية من الأراضي اللبنانية. وكان "شولتز" قد ذهب إلى سوريا لمقابلة رئيسها الراحل حافظ الأسد, الذي لم يرق له الاتفاق لكونه عامل سوريا على قدم المساواة مع إسرائيل على اعتبار أنها دولة غازية محتلة, بل ولأنه كافأ إسرائيل على اجتياحها واحتلالها للبنان. ولذلك فقد سارعت دمشق إلى رفضه مباشرة, ما أن جرى التوقيع عليه في السابع عشر من شهر مايو المذكور, من قبل كل من الرئيس اللبناني أمين الجميل والحكومة الإسرائيلية. وكان تبرير السوريين لرفضهم هذا أنهم لم يكونوا طرفاً في المفاوضات التي أودت إليه, إلى جانب عدم رضاهم بالشروط التي نص عليها. وفي أقل من عشرة أشهر على ذلك الرفض, تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن دورها كوسيط محايد نزيه في تسوية الأزمة اللبنانية. ثم تلا ذلك تعرضها لهجمات وضربات موجعة من قبل "حزب الله" الناشئ للتو, بما فيها الهجمات القاتلة على ثكنات قوات المارينز في العاصمة بيروت في أكتوبر من عام 1983, ما أرغمها على مغادرة المنطقة عسكرياً, تاركة بذلك الإسرائيليين واللبنانيين لمواجهة قدرهما كيفما كان. وفي غضون عام من ذلك الانسحاب كانت قد ذهبت حكومة الجميل, بينما واصلت إسرائيل احتلالها للجنوب اللبناني بتكلفة باهظة كبدتها الكثير من الخسائر حتى عام 2000. لذلك فليس من عجب أن تبدي قلة من الأميركيين, بمن فيهم أفراد في المؤسسة العسكرية الأميركية, حماساً يذكر لاحتمالات نجاح إرسال مهمة عسكرية أميركية جديدة إلى لبنان, على أمل المساعدة في إيجاد تسوية سلمية للأزمة الراهنة بين إسرائيل و"حزب الله". واليوم ومثلما فعل جورج "شولتز" وزير الخارجية بذهابه إلى منطقة الشرق الأوسط في عام 1983 بغية التوسط في الأزمة الدائرة وقتئذ, فقد فعلت كذلك كوندوليزا رايس برحتلها الأخيرة هذه إلى الشرق الأوسط. غير أن الفارق بين الاثنين أن كوندوليزا لم تكلف نفسها مجرد التفكير في زيارة سوريا ومحاولة إشراك حكومتها في الخطط الهادفة إلى تسوية الأزمة الراهنة. ويحدو "رايس" أمل في أن تبادر حكومات الدول العربية, لا سيما المملكة العربية السعودية ومصر, ودول الاتحاد الأوروبي, إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الرئيس السوري بشار الأسد, وحثه على التعاون في استقرار لبنان. ولكن دعنا نتساءل هنا: ما مصلحة الأسد في قبول دعوة مبهمة وغير مباشرة كهذه من قبل واشنطن, خاصة وأنها وباريس, كانتا رأس الرمح في الضغوط الدولية التي أرغمت سوريا على الانسحاب من لبنان عقب اغتيال رئيس وزرائه السابق رفيق الحريري؟ ربما تكون في انتظار حكومة بشار الأسد مكاسب عظيمة فيما لو وافقت على التعاون المطلوب منها في لبنان. أقل هذه المكاسب أن تعود سوريا مجدداً إلى الساحة الشرق أوسطية بصفة اللاعب الرئيسي فيها. بل ترتفع وتعظم هذه المكاسب بصفة خاصة, فيما لو صحب اتفاق لتسوية الأزمة اللبنانية, سخاء عربي مدعوم بوعود أميركية بالحفاظ على علاقات اقتصادية حسنة معها. وفي ظل ظروف كهذه ربما يبدي الإسرائيليون استعداداً للتفاوض مع دمشق حول استعادة هضبة الجولان, في الوقت الذي تطمئن فيه دمشق على استمرار سطوتها ونفوذها على لبنان. لكن وفي المقابل فما هو الثمن الذي يتعين على سوريا دفعه كي تفوز بكل هذه المكاسب؟ ينبغي عليها المشاركة في عملية نزع سلاح "حزب الله", ولعب دور أكثر إيجابية في إعادة بناء العراق ومنع تسلل المتمردين والجهاديين إليه عبر حدودها, إضافة إلى كسر التحالف القائم بينها وطهران. ولكي تتحقق كل هذه المطالب الصعبة المكلفة, فإن على إدارة بوش أن تأخذ بأهمية مكافأة سوريا على تعاونها معها في حل الأزمة اللبنانية الراهنة. وهذا ما يتطلب إحداث تحول راديكالي في السياسات الأميركية الحالية إزاء سوريا.