كان الوقت أواخر شهر يونيو في سراييفو عندما أطلق الشاب الصربي ذو الميول القومية "جافريلو برنشيب" النار على الدوق فرانز فرديناند وزوجته. وبعدما أفرغ مسدسه قفز إلى النهر المجاور محاولا الفرار لكن سرعان ما ألقي عليه القبض لتبدأ أحداث زلزلت أوروبا وخرجت عن السيطرة بعد أن صعب التحكم في مجراها. وقد ساهمت تلك الأحداث الأليمة في ترسيخ فكرة لدى الناس مفادها أن شرارة صغيرة قادرة على إشعال حرب طاحنة تذيق العالم الأهوال والويلات. وهو ما جرى فعلاً خلال الحرب العالمية الأولى حيث قادت الرصاصات القليلة التي أطلقها "برنشيب" من مسدسه ذلك اليوم من صيف 1914 إلى إزهاق أرواح عشرة ملايين شخص وتمزيق أوصال أربع إمبراطوريات، كما زجت بعشرات الدول في أتون حرب مدمرة. وبينما يراقب العالم هذا الصيف ما يصطرع به الشرق الأوسط من عنف وتدمير يبرز الشعور المتنامي لدى الناس بهشاشة الأمن والسلم في العديد من مناطق العالم. فالمواجهات الدامية الدائرة في لبنان حالياً هي جزء من صورة أشمل تؤشر على عودة العنف مجدداً إلى الساحة الدولية. فالعراق يمر عبر واحد من أحلك الشهور التي عاشها منذ الغزو الأميركي سنة 2003. وتشهد أفغانستان عنفاً متنامياً بسبب الصعود المفاجئ لقوة "طالبان" التي تقوم بإحراق المدارس ومهاجمة القرى في جنوب البلاد بينما تحاول الولايات المتحدة تثبيت دعائم الحكومة الضعيفة في كابل ومساعدتها على بسط سيطرتها على باقي مناطق البلاد. أما الهند فمازالت تلملم أثار التدمير الذي أحدثته العملية الإرهابية الأخيرة في مومباي موجهة أصابع الاتهام إلى العناصر الباكستانية المتشددة. ولم يبقَ مكان في العالم خالٍ من السلاح، حيث تسعى إيران وكوريا الشمالية بدأب لحيازة السلاح النووي، كما أصبحت الصواريخ بعيدة المدى تنتشر كفيروس قاتل. وفي ظل الأوضاع المضطربة في العالم ليس غريباً أن يشرع البعض في الحديث عن صراع عالمي مثل عضو الكونجرس السابق "نيت جينجريتش"، الذي قال "نحن في المراحل الأولى لما يمكن أن أسميه بحرب عالمية ثالثة". وليس غريباً أيضاً أن تمتلئ بعض مواقع الإنترنت بالحديث عن المعركة النهائية بين الخير والشر. وللتأكد من مدى خطورة الاضطرابات التي تعصف بالعالم دعونا ننظر إلى السيناريوهات التالية: استهداف إيران: بينما تحاول القوات الإسرائيلية تدمير عناصر "حزب الله" ترصد الاستخبارات الإسرائيلية شحنة من الصواريخ بعيدة المدى قادمة من إيران ومتوجهة إلى لبنان. حينها تقرر إسرائيل ضرب الشحنة ومعها المنشآت النووية الإيرانية بشكل متزامن لترد إيران بإرسال "حرسها الثوري" إلى العراق للانتقام من القوات الأميركية. ويتزامن ذلك مع اشتداد الضغط في الشارع العربي على الأنظمة في السعودية والأردن ومصر لدرجة ترضخ معها للمطالب الشعبية وتدخل في الحرب ضد إسرائيل. إطلاق الصواريخ: وأثناء انشغال العالم بما يجري في الشرق الأوسط قد تقرر كوريا الشمالية مواصلة إطلاق صواريخها بعيدة المدى التي بدأتها مطلع الشهر الجاري. وبينما تحاول إطلاق صاروخ يسقط في البحر المقابل لليابان يخطئ مساره ويسقط فوق طوكيو ليوقع عشرات القتلى. في هذه الحالة سوف تهب الولايات المتحدة للدفاع عن اليابان بموجب معاهدة التحالف الموقعة بينهما وستمطر كوريا الشمالية بالقذائف ما سيدفعها إلى الرد عبر إطلاق سلاح مدفعيتها ضد جارتها الجنوبية. وفي الوقت نفسه سوف تدخل القوات الصينية من الشمال في محاولة لإيقاف تدفق اللاجئين الفارين من الجنود الأميركيين المتقدمين من الجنوب ليلتقي جيشا أكبر قوتين في معركة شرسة. الأسلحة النووية الفالتة: في غضون ذلك سيحاول تنظيم "القاعدة" نشر الفوضى في باكستان، لينزلق البلد في فوضى عارمة تسيطر فيها الجماعات المتشددة على باكستان وتسعى للحصول على الأسلحة النووية التي تمتلكها إسلام أباد. وستحاول الهند من ناحيتها استغلال الفراغ الحاصل كي تتدخل في كشمير وتعاقب العناصر المسلحة التي تتهمها بالضلوع في تفجيرات مومباي. وكما كان عليه الأمر في الحروب السابقة يوجد في الوقت الحاضر ما يكفي من الدوافع القادرة على إشعال شرارة الصراع مجدداً. والسؤال الذي يلح على أذهاننا اليوم هو مدى قدرة القوى العالمية على إدارة الأزمات الناشبة والحيلولة دون تفاقمها واتساع نطاقها لتتحول إلى حروب إقليمية. فقد أدى انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي إلى مضاعفة احتمال اندلاع الحروب بعدما اختفت القوى التي كانت تلجم حلفاءها وتمنعهم من التصعيد خشية التصادم مع القوى الكبرى التي تقف وراءها سواء كانت الولايات المتحدة، أو الاتحاد السوفييتي. أما اليوم لا يستطيع أحد أن يجزم بأنه قادر على التأثير في إيران، أو كوريا الشمالية بعد اختفاء الثنائية القطبية وعجز الولايات المتحدة لوحدها عن إقناع جميع الأطراف بسياساتها. وإذا كان هناك أمر إيجابي يميز عصرنا الحالي فهو إحجام القوى الجديدة الصاعدة على إعادة ترتيب النظام العالمي بالصورة العسكرية التي أقدمت عليها ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية. فرغم صعود الصين المتسارع لتصبح قوة يعتد بها على الصعيد العالمي، إلا أن قوتها إلى حد الآن منصبة على تطوير أدائها الاقتصادي بدل السعي وراء الغزو العسكري. والأمر نفسه مع روسيا التي وإن كانت منزعجة من فقدانها لقوتها السابقة، إلا أنها نحو الاستفادة من مواردها الكبيرة من النفط والغاز الطبيعي أكثر منه إلى تطوير قدراتها العسكرية. ــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"