القرآن: الذكر والحديث
كانت المقالات السابقة عبارة عن "قراءات" في محيط القرآن الكريم: تحدثنا عن علاقته التاريخية باليهودية والنصرانية –كما يحددها هو نفسه- بوصفه يشكل معها كتب الديانات السماوية الثلاث، وأبرزنا ما نعتقد أنه المعنى المقصود بوصف النبي عليه الصلاة والسلام بـ"الأمي" والعرب بـ"الأميين" في القرآن، وتحدثنا عن حدث الوحي والنبوة: عن معاناة النبي لهما، وعن أنواع الفهم التي كونها المسلمون لأنفسهم عنهما. وقد آن الأوان الآن لنقف على عتبات "الذكر الحكيم" بقصد التعرف -لا أقول على محتواه فهذا موضوع آخر- بل التعرف على مسار كونه وتكوينه، منذ ابتداء نزوله منجماً إلى أن انتهى إلى المصحف الذي بين أيدينا الآن.
لنبدأ من البداية ولنتساءل: ما معنى "القرآن"؟
ذكر المفسرون والمؤلفون في "علوم القرآن" جملة معانٍ للفظ "القرآن"، فصنفوا الآراء التي قال بها في الموضوع كل من اللغويين ورواة السيرة وغيرهم في رأيين:
1- فريق يقول إن لفظ "القرآن" غير مهموز (=قُران)، بمعنى أنه ليس من القراءة. من هؤلاء من قال إنه اسم علَم (غير مشتق) لكتاب الله مثلما أن التوراة اسم علم للكتاب الذي أنزل على موسى، والإنجيل اسم علَم للكتب التي كتبها الحواريون حول دعوة عيسى وسيرته (الأناجيل). ومنهم من جعله مشتقاً من قَرَنْتُ الشيء بالشيء، إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، بمعنى أن آياته وسوره ضمت بعضها إلى بعض بعد أن نزل منجماً مفرقاً. وآخرون قالوا بل هو مشتق من "القرائن"، "لأن الآيات منه يُصدِّق بعضُها بعضاً ويشابه بعضها بعضاً وهي قرائن". وفي جميع هذه الأحوال "فهو بدون همز، ونونه أصلية".
2- أما الفريق الثاني فيرى، بالعكس من ذلك، أن لفظ "القرءان" مهموز، ولكنهم اختلفوا في صيغته: منهم من قال: هو وصف على فُعلان مشتق من القُرء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض: أي جمعته. وبناء على هذا قال بعضهم: "وسمي (القرآن) بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض". هذا بينما لاحظ آخرون أنه: "لا يقال لكل جمع قرءان، ولا لجمع كل كلام قرءان... وإنما سمي قرءاناً لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة". وفي هذا المعنى قيل "إنه جمع أنواع العلوم كلها". وحكي عن بعضهم أن القرءان "سمي قرءاناً لأن القارئ يُظْهره ويُـبِينه من فِيه، أخذاً من قول العرب ما قرأَتِ الناقةُ سلاقِطَ: أي ما أسقطت ولداً: أي ما حملت قط. والقرءان يلقطه القارئ من فيه ويلقيه فسمي قرءاناً".
وواضح أن هذه تأويلات بعيدة عن المعنى الظاهر للكلمة والذي تذكره كتب اللغة: فالقرءان، لغة، من قرأ يقرأ قراءة وقرءاناً، مثل رجح رُجحاناً وغفر غُفراناً.. الخ. وهذا ما تزكيه أول آية نزلت، "اقرأ باسم ربك"، مخاطبة النبي عليه الصلاة ولسلام، فكان رده "ماذا أقرأ"؟ كما بينا ذلك في مقال سابق. أضف إلى ذلك قوله تعالى: " لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (القيامة 16/19). وبهذا الاعتبار يكون لفظ "القرءان"، عندما يراد به ما بين دفتي "المصحف"، موازناً لمصطلحي "القراءة" و"التلاوة" عندما يراد بهما محتوى مقروء الكتاب الذي يقرأ فيه الأطفال القراءة، بالمعنى الواسع للكلمة (من التهجِّي إلى القراءة المُبِينة المُنغَّمة المُجَّودة). فكتاب "القراءة المصورة" أو "التلاوة الجديدة" هو مقروء والتلاميذ قراء. ولا يشترط في القراء أن يفهموا المقروء، وإنما يشترط فيهم حسن أداء القراءة. ومن هنا كان بعضهم ممن له صوت رخيم يتباهى بقراءته للقرآن ويوظفها في تأكيد ذاته وربما أيضاً في إشهار تدينه.. الخ. وبهذا المعنى ورد في الحديث: "إن أكثرَ مُنافِقي أُمَّتي قُرّاؤُها" (ذكره ابن حنبل في مسنده).
ويلتمس الجاحظ لمدلول اسم "القرآن" مرجعية عربية حين يقارنه بما كان عند العرب، قال: "سمى الله كتابه اسماً مخالفاً لما سمى العرب كلامهم على الجمل والتفصيل: سمَّى (الله) جملتَه "قرءاناً" كما سمَّوا (مجموعة من قصائد الشعر) ديواناً، وبعضَه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت (البيت من الشعر)، وآخرها فاصلة كقافية". وهذه المقارنة التي يعقدها الجاحظ بين "القرآن" كمجموعة سور وآيات وبين "الديوان" كمجموعة قصائد وأبيات لا تخلو من طرافة، غير أن طرافتها يجب ألا تحجب عنا جملة الأسئلة التي تطرحها على الفكر الناقد الفاحص. ذلك أن قوله "سمى الله جملة كتابه قرآنا" يطرح السؤال التالي: ألم يسمِّه كتاباً أيضاً؟ وبالتالي: ما الفرق بين "القرآن" و"الكتاب"؟ وما وجه العلاقة بينهما، علماً بأن القراءة في اللغة العربية ليست بالضرورة قراءة في كتاب، بل تعني كذلك استظهار ما تم حفظه وتلاوته، ومنه القُرَّاء، أي حُفَّاظ القرآن؟ هذا إضافة إلى أن القرآن يطلق على نفسه –إذا جاز هذا التعبير- أسماء أخرى مثل الذكر، الحديث.. الخ؟
لنضف إلى ذلك سؤالاً آخر قد يقودنا إلى الطريق الذي يهدينا إلى التماس الجواب عن هذه المسائل، هذا السؤال يمكن صياغته كما يلي: نحن نعرف أن القرآن نزل منجماً (مفرقاً)، وأن مقدار ما نزل منه في السنوات الأولى من النبوة كان قليلاً، وكان يتداول سراً، فكيف كانت الجماعة الإسلامية الأولى تسمي ذلك القليل من القرآن الذي كانت تتداوله؟
إن المؤلفات التي كتبت في موضوع "علوم القرآن" على أهميتها وضخامتها لا تسعفنا (أو على الأقل ما اطلعنا عليه منها) بجواب عن هذا السؤال، بل لربما لم تطرحه بالمرة. ولذاك فليس أمامنا سوى سبيل واحدة لالتماس الجواب عن هذا السؤال. أقصد بذلك تتبُّع آيات القرآن الكريم حسب ترتيب نزول سوره، والنظر فيما عسى أن يكون هناك من ألفاظ تدل على ما كان قد نزل من القرآن!
الواقع أننا لا نجد ذكراً للفظ "القرآن" في السور الأولى التي نزلت قبل الجهر بالدعوة. ذلك أن لفظ "القرآن" إنما ورد وتكرر في السور التي فيها رَدٌّ على مشركي مكة في إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، واتهامهم له بالسحر والجنون.. الخ، وهذا حدث بعد الجهر بالدعوة، وبكيفية خاصة عندما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام يتعرض لأصنامهم، أي حوالى السنة الخامسة من البعثة النبوية.
وبقطع النظر عن تعيين التاريخ بدقة، نظراً لصعوبته، فإن لفظ "القرآن" إنما ورد لأول مرة في سورة "البروج" ورتبتها 27 حسب ترتيب النزول. أما قبل ذلك فلم يوصف الوحي المحمدي بأي وصف ولم يطلق عليه أي اسم إلا ابتداء من سورة "التكوير" (ورتبتها 7)؛ ففيها وصف لأول مرة، في معرض الرد على المشركين الذين قالوا عن الرسول إنه "مجنون" وعن القرآن إنه "قول شيطان"، وصف بأنه: "َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ"، وأنه "ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ". (التكوير19/27). وسيتكرر ألفاظ "ذكر" و"ذكرى" و"تذكرة" كأسماء للقرآن –قبل أن يسمى بهذا الاسم- في عدد من الآيات، منها آية في سورة الأعلى (ورتبتها 8) حيث ورد قوله تعالى "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى" (الأعلى 9). أما في سورة النجم (ورتبتها 23) وقد نزلت حوالى السنة الخامسة/ السادسة -ويروى أنها أول سورة قرأها عليه الصلاة والسلام جهاراً في الكعبة ورجال من قريش في نواديهم يسمعون- أما في هذه السورة فقد خاطب تعالى فيها رسوله الكريم بقوله: "فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (النجم 29)، والمقصود بـ"ذكرنا": "آيات الذكر الحكيم" (الأعراف 58).
وفي سورة النجم نفسها التي ختمت، بعد عظات بليغة قوية، بقوله تعالى: "هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الأولَى، أَزِفَتْ الآزِفَةُ، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ، أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (لاهون)، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا" (النجم 56/62)، في هذه السورة، إذن، نلاحظ ورود لفظ جديد سمي به الوحي المحمدي، هو "الحديث". قالوا: "وسمى القرآن حديثاً لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدّث به أصحابه وقومه". والحديث في اللغة "الجديد" (ضد القديم)، ويطلق على الخبر الذي يخبر عن شيء جديد "لا يعرفه السامع أو لا يذكره". ويضيف مصدرنا: "وأكثر ما يطلق عليه لفظ "الحديث" في القرآن أخبار الأمم الماضية وأخبار الجنة والنار... الخ. والحديث الذي يحدِّث به النبي عليه الصلاة والسلام، صنفان: صنف يوحَى إليه، فهو قرآن، وقسم من عنده، يبين به ما ورد في القرآن، أو يخبر به هو عن أشياء تتعلق بالدين"، وهذا هو "الحديث" بالمعنى الاصطلاحي: الحديث النبوي.