هل يحتاج القرآن إلى تعريف؟ سؤال مشروع تماماً عندما يتعلق الأمر بـ"القرآن" في عرف المألوف المشهور، كما هو الشأن، مثلاً، بالنسبة للألفاظ المتداولة في حديث الناس يومياً كـ"الإنسان" و"الأرض" و"الشجر"... الخ. أما عندما يراد من التعريف إعطاء فكرة عن المراد، تعريف ببيان صفاته ومميزاته أو تحديد ماهيته... فالأمر يختلف! 1- وهكذا فإذا أردنا أن نقدم تعريفاً بالقرآن بمجرد الإشارة إليه، كما نشير إلى الأشياء المألوفة المشهورة، قلنا مع القائل إنه هذا النص "الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم". هذا النوع من التعريف يشير إلى ما هو حاضر في المجال البصري أو الذهني للمخاطب، وهو تعريف موضوعي حيادي لا يضيف من عنده أي عنصر على المشار إليه كما هو معطى للمشاهد. 2- أما إذا أردنا تعريفاً للقرآن يرسم صورته كما هي في ذهن المسلم، وفي الغالب كما ورثها من محيطه الثقافي، قلنا مع القائل: "القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى، نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المكتوب في المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس". الفرق بين هذا التعريف والذي سبقه هو وصف القرآن بأنه "كلام الله .. نزل به جبريل". وهذا لا يسلم به ابتداء إلا المسلم المؤمن بأن القرآن "كلام الله، نزل به جبريل". فإذا نظرنا إلى هذا التعريف داخل دائرة الإسلام والمسلمين أمكن القول عنه إنه تعريف إسلامي، حيادي، يقتصر على وصف المشار إليه كما هو في المجال التداولي الإسلامي، أي بدون صدور عن موقف مذهبي أو إيديولوجي، سواء من داخل هذا المجال أو من خارجه. 3- والتعريف التالي أقرب إلى هذا الأخير ولكن مع فارق أيضاً. يقول هذا التعريف: القرآن "هو كلامُ اللهِ تعالى وَوَحْيُهُ المُنَزَّلُ على خَاتَمِ أَنْبِيَائـِهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم المَكتُوبُ في المُصْحَفِ، المنقُولُ إلينا بالتَّوَاتُرِ، المُتَعَبَّدُ بتِلاوَتـِهِ، المُتَحَدَّى بإِعجَازِهِ". والفرق بين هذا التعريف والتعريف الأخير ثلاثة أمور: 1) وصف النبي بأنه "خَاتَمِ أَنْبِيَائـِهِ"، 2) وصف القرآن بأنه "المنقول إلينا بالتواتر "، 3) وصفه بأنه "المتحدى بإعجازه". فإذا كان الوصف الأول منصوصاً عليه في القرآن ومقبولاً من طرف جميع المسلمين، فإن هناك مذهباً إسلامياً يميز في "النبوة"، -نبوة محمد عليه الصلاة والسلام- بين ما هو مختوم فعلاً وبين ما هو مستمر بصورة من الصور (كما بينّا في مقال سابق). هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك داخل دائرة الإسلام من يجعل "التواتر" و"الإعجاز" موضوع نظر! 4- وأشبه بالتعريف الأخير، ولكن مع فارق أيضاً، التعريف الذي ينص على أن القرآن: "هو كلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق، المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم باللغة العربية، المعجزةُ المؤيدة له، المتحدى به العرب، المتعبد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتر". ويتجلى الفرق بين هذا التعريف والتعريف الذي قبله في مسألتين: أولاهما قوله: "غير مخلوق" من جهة، وثانيتهما قوله: "المنزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) باللغة العربية، المعجزةُ المؤيدة له، المتحدى به العرب". أما المسألة الأولى فتحيل إلى مذهب معين من المذاهب الكلامية في الإسلام. وأما الثانية فهي تحصر تحدي معجزة النبي عليه الصلاة والسلام في "العرب"، والمفهوم أولئك المكذبين من قريش خصوم الدعوة المحمدية الذين تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة مثله فلم يفعلوا. وهذه مسألة موضوع كلام أيضاً. 5- ومن أكثر التعريفات مذهبية وأبعدها عن الاعتراف بحق الاختلاف في الفهم قول القائل: "القرآن الكريم كلام الله منه بدا، بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله -تعالى- بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر"! لعل القارئ قد انتبه إلى ما أضافه هذا التعريف من جديد. يتعلق الأمر أولاً بقوله "بلا كيفية قولاً"، والمقصود أن قولنا "القرآن كلام الله" لا يترتب عنه أن يكون هذا الكلام ذا كيفية ككلام الواحد من البشر، وبالتالي فلا يجوز التساؤل عن حقيقة هذا الكلام: هل هو كلام بالألفاظ أم كلام نفسي؟ وهل هو صفة "زائدة على الذات" كما هو الحال في كلام البشر أم أنه هو "عين الذات".. الخ! وأما العنصر الثاني الذي أضافه هذا التعريف فهو تكفير من قال بخلق القرآن، أي بكونه غير قديم، قدم ذات الله. وهذه مسألة أثارت فتنة كبيرة في العصر العباسي زمن المأمون والمعتصم والواثق، عرفت بـ"محنة خلق القرآن". أعتقد أنه لا ضرورة في الاسترسال، بعد الذي ذكرنا، في الإتيان بمزيد من التعريفات كي يقتنع القارئ بأن الكتابة في موضوع "التعريف بالقرآن" شيء مبرر. ومن أجل التحرر من الخلفيات المذهبية والإيديولوجية التي أملت أو وجهت التعريفات المذكورة نرى أنه من الضروري تجاوزها جميعها، وذلك بالرجوع إلى ما ورد من تعريفات للقرآن في القرآن نفسه. يقول تعالى عن القرآن، مخاطباً نبيه الكريم: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (جبريل)، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ" (الشعراء 192/196). وقال: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" (الإسراء 106)، وقال: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَّ" (آل عمران 3/4). إنه من خلال هذه الآيات ومثيلاتها، التي تقدم لنا تعريفات للقرآن بالقرآن، يمكن طرح أسئلة الكون والتكوين الخاصة بما نسيمه هنا بـ"الظاهرة القرآنية"، أعني القرآن كما يتحدد بالآيات المذكورة إضافة إلى الموضوعات التي تطرق إليها المسلمون بارتباط مع القرآن، وأنواع الفهم والتصورات "العالمة" التي شيدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده. نقرأ في تاريخ الأدب العربي أن بعض شعراء مرحلة ما قبل الإسلام كانوا يقضون عاماً بأكمله في نظم قصائدهم ومراجعتها وتنقيحها...خ، قبل أن يظهروها للناس. ولا أحد يعرف –فيما أعتقد- المسار الذي تم فيه كون وتكوين أية قصيدة من تلك الحوليات. وقد يصدق هذا على النصوص الأدبية الأخرى، بل لربّما يصدق أيضاً على أمهات الكتب أيضاً. أما بالنسبة للقرآن الكريم، فالأمر يختلف. فالمعروف المؤكد أنه نزل منجماً، أي خرج إلى مجال الوجود البشري بصورة متدرجة (الآية الثانية). ومن هنا طريقة أخرى في التعريف به. تبدأ هذه الطريقة ليس انطلاقاً من وضعه الحالي كنص بين دفتي المصحف، بل من محاولة فهم المراحل التي قطعها منذ بداية نزوله حتى أصبح كما هو الآن في المصحف. إن هذا النوع من التعامل يهتم بالتعرف على كيان النص، وذلك من خلال رصد عملية نموه الداخلي من جهة، ومن خلال تتبع الكيفية أو الكيفيات التي تم التعامل بها معه خلال مسيرته نحو اكتمال وجوده بين الناس كنص نهائي مصون عن الزيادة النقصان. ومع أن المفسرين في جميع العصور قد تعرضوا لهذا الجانب من الفحص للنص القرآني، فطرحوا أسئلة وصاغوا أجوبة ظلت موضوع تداول بينهم، فإن الذين اختصوا في هذا النوع من التعامل التكويني مع النص القرآني هم علماء باحثون ظهروا في مرحلة متأخرة نسبياً أطلقوا على نتائج أبحاثهم أسماء واصطلاحات يضمها اسم جامع هو: "علوم القرآن". يقصدون بذلك أنواع المعارف التي تدور حول مختلف جوانب النص القرآني. وقد كتبت في هذا الموضوع أبحاث متعددة منذ بداية عصر التدوين، وظهرت ابتداء من القرن الرابع الهجري مؤلفات جامعة ومتنوعة احتفظت كلها تقريباً بعبارة "علوم القرآن" في عناوينها. ولاشك أن الذي ينظر إلى الموضوع نظرة من يحمل منظار الثقافة العربية، كما ورثها جيلنا والأجيال السابقة، سيحكم بأن الكلام في النص القرآني، من هذه الجهة، قد استوفاه الأقدمون في تلك المؤلفات الجامعة. والحق أنهم طرحوا –تقريباً- "جميع" الأسئلة المتعلقة بالموضوع وناقشوها وقدموا إجابات عنها حتى ليخيل إلى المرء اليوم أنه لم يعد هناك مجال للمزيد. ومع هذا الاهتمام الزائد من طرف القدماء بموضوع "أسئلة الكون والتكوين" الخاصة بالقرآن، بل وبفضل هذا الاهتمام، نجد أنفسنا اليوم مطالبين بتجديد طرح كثير من الأسئلة التي طرحت سابقاً وفسح المجال لأسئلة أخرى قد تطرحها اهتمامات عصرنا الفكرية والمنهجية. ذلك لأنه بغير تجديد التفكير في الأسئلة القديمة وطرح أخرى جديدة لن يتأتى لنا الارتفاع بمستوى فهمنا لـ"الظاهرة القرآنية" إلى الدرجة التي تجعلنا معاصرين لها وتجعلها معاصرة لنا.