حديثان نبويان يترددان كثيرا على ألسنة الخطباء والوعاظ وفي مقالات الكتاب... يظهر من لفظهما وكأن الواحد منهما يقرر عكس ما يقرره الآخر. أما أحدهما فقد روي بعبارات مختلفة لعل أكثرها تداولا العبارة التالية: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). وأما الآخر فقد روي كما يلي: (إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها) (وقيل أمر دينها)· والتناقض اللفظي في هذين الحديثين ظاهر بين: ذلك لأنه إذا كانت كل (محدثة بدعة) فكيف يمكن أن يكون هناك تجديد، والبدعة ابتداع شيء لم يكن؟
الواقع أن الذي يفصل في الأمر هو المعنى الذي يعطيه الفقهاء الأصوليون لـ(البدعة) في هذا المقام. ذلك أن المعنى الديني الأصلي لكلمة بدعة هو: (الـحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّين بعد الإِكمال)، وبعبارة أخرى: (ما خالَف أُصولَ الشريعة ولـم يوافق السنة). ومن الأمثلة التي تروى في هذا الصدد أن أناسا كانوا (يصلون في المسجد صلاة الضحى)، فسئل عبدالله بن عمر بن الخطاب عن ذلك (فقال: بدعةٌ). بمعنى أنها شيء محدث في الدين. فالبدعة: إحداث شيء في الدين لم يُنَص عليه لا في الكتاب ولا في السنة، سواء كان قولا أو فعلا. ولذلك كان معظم كلام الفقهاء القدامى في (البدعة) إنما يقع في مجال العبادات من وضوء وصلاة وحج··· إلخ.
صحيح أن هؤلاء قد ميزوا في وقت مبكر بين (البدعة الحسنة) (أو (بدعة الهدى)) وبين (البدعة السيئة)( أو (بدعة الضلالة))، وبالتالي صرفوا معنى الحديث الذي يقرر (كل بدعة ضلالة) إلى البدعة السيئة وحدها. وشرح بعضهم ذلك بقوله: (فما كان فـي خلاف ما أَمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو فـي حَيِزّ الذّمِّ والإِنكار، وما كان واقعاً تـحت عُموم ما ندَب الله إِلـيه وحَضّ علـيه، أَو رسولُه، فهو فـي حيِّز الـمدح، وما لـم يكن له مِثال موجود كنَوْع من الـجُود والسّخاء وفِعْل الـمعروف فهو من الأَفعال الـمـحمودة، ولا يجوز أَن يكون ذلك فـي خلاف ما ورد الشرع به لأَن النبـي صلى الله عليه وسلم قد جعل له فـي ذلك ثواباً فقال: مَن سنّ سُنّة حسَنة كان له أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها، وقال فـي ضدّه: مَن سَنَّ سُنّة سيئة كان علـيه وِزْرها ووِزْر مَن عَمِلَ بها، وذلك إِذا كان فـي خلاف ما أَمر الله به ورسوله). وتوسع آخرون فأدخلوا البدعة تحت جهات الحكم في الإسلام (الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام)، فقال: (فالبدعة تعتريها الأحكام الخمسة: الوجوب كتدوين الكتب، والندب كإحداث المدارس، والكراهة كتطويل الثياب، والإباحة كاتخاذ المناخل والتوسع في المأكل، والحرمة كالمكوس).
ثم توسع آخرون فعمموا مفهوم البدعة على كل شيء لم يكن موجودا على عهد (السلف الصالح). والمقصود زمن النبي والخلفاء الأربعة الراشدين. ومن هنا ربطوا بين (البدعة) و(التجديد)، فحصروا معنى التجديد -المنصوص عليه في الحديث الآنف الذكر (إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة بمن يجدد لهذه الأمة دينها)- في محاربة البدع، بهذا المفهوم العام، فقالوا: (التجديد هو كسر البدعة). فصار معنى (التجديد) هو العودة إلى ما كان عليه العرب زمن النبوة وعهد الصحابة. وعلى هذا الأساس غالى كثير من فقهاء عصر الجمود والانحطاط مغالاة -لا يسمح بها الإسلام إطلاقا- في تطبيق مفهوم (البدعة) بمعناها الذي يفيد الذم، على كثير من المستجدات التي لم تكن من البدع بهذا المعنى في شيء، بل إن كثيرا منها كان من التجديدات الضرورية. لقد كان هناك من فقهاء عصر الجمود والانحطاط من اعتبروا بناء المدارس (بدعة) مذمومة بدعوى أن العلم إنما كان يتلقى، على عهد (السلف الصالح)، في المساجد، كما كان منهم من اعتبر بناء القناطر من (البدع) الضالة بدعوى أن الصحابة لم يعرف عنهم أنهم شيدوها... إلخ·
ويعجبني رد الإمام الشاطبي، الفقيه الأندلسي المجتهد المتوفى سنة 790 هجرية، يعجبني رده على هؤلاء لأنه كان ردا إسلاميا وعقلانيا تاريخانيا في آن واحد: لقد دعاهم إلى النظر إلى (الجديد) لا من زاوية أنه لم يكن في عصر الصحابة وأنهم لم يكونوا يأتونه، بل من زاوية ما قد يكون فيه من المصلحة. يقول عن هؤلاء الفقهاء: (إن عدوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم (=الصحابة) من المأكول والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول- زمان الصحابة- بدعة. وهذا تشنيع. فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والأمم، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، وهذا من المستنكرات جدا). ومن هنا يلح الشاطبي على ضرورة التمييز بين البدع في العبادات والأمور المتعبد بها، وبين البدع التي تتعلق بالأمور التي تجري مجرى العاديات أي التي تقتضيها الحياة الاجتماعية وتطورها. فكل ما لا يؤدي إلى ترك عبادة من العبادات التي نص عليها الاسلام ولا إلى إحداث عبادة لم ينص عليها فليس بـ(بدعة) بالمعنى المذموم للكلمة.
من هنا يتضح ضيق التعريف القديم لـ(التجدي