تشير كلمة "لوبي"، بالمعنى المحدَّد والضيق للكلمة، إلى جماعات الضغط التي تسجل نفسها رسـمياً باعتبارها كذلك. ولكنها، بالمعنى العام، تشير إلى مجموعة من المنظمات والهيئات وجماعات المصالح والاتجاهات السياسية التي قد لا تكون مُسجلة بشكل رسمي، ولكنها تمارس الضغط على الحكام وصناع القرار. وعبارة "اللوبي اليهودي الصهيوني" في الأدبيات العربية والغربية (في معظم الأحيان) تشير إلى معنيين، أولهما اللوبي الصهيوني بالمعنى الضيق وتشير الكلمة في هذه الحالة إلى لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأميركية (إيباك) AIPAC، وهي من أهم جماعات الضغط. ومهمته، كما يدل اسمه، الضغط على المشرعـين الأميركيين لتأييد الدولة الصهـيونية. ويتم ذلك بعـدة سبل، من بينها تجميع الطاقات المختلفة للجمعيات اليهودية والصهيونية وتوجيه حركتها في اتجاه سياسات وأهداف محددة عادةً تخدم مصلحة إسرائيل. وتشير كلمة "اللوبي الصهيوني" بالمعنى العريض إلى إطار تنظيمي عام يعمل داخله عدد من الجمعيات والتنظيمات والهيئات اليهودية والصهيونية تنسق فيما بينها. وقد أثيرت قضية اللوبي الصهيوني حين صدرت في مارس الماضي بالولايات المتحدة دراسة أكاديمية مهمة بعنوان: "اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية". كتبها أكاديميان بارزان هما: "جون ميرشايمر"، أستاذ العلوم السياسية والمدير المشارك لبرنامج "أبحاث سياسات الأمن الدولي" بجامعة شيكاغو، و"ستيفن وولت"، أستاذ العلوم السياسية وعميد كلية جون كينيدي للسياسة بجامعة "هارفارد". وقد نشرت الدراسة المطولة على الموقع الإلكتروني لكلية كينيدي للسياسة بجامعة "هارفارد" –أهم الجامعات الأميركية- ضمن سلسلة أبحاث يجري تطويرها في الكلية، ونشرت نسخة مختصرة منها في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" London Review of Books. ترى الدراسة أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل ليست في صالح الأمن القومي الأميركي، وأن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، خاصة اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة (إيباك)، قد ساعدت –من خلال وسائل الإعلام والرأي العام- على المبالغة في أهمية أن تكون حماية إسرائيل وأمنها مفتاح السياسة الخارجية الأميركية. في مقابل ذلك يرى المؤلفان أنه من الضروري أن تحتل المصلحة القومية الأميركية الأولوية في السياسة الخارجية الأميركية، وينبهان إلى أنه في العقود الماضية، ومنذ حرب الأيام الستة في 1967، أصبحت العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة هي الجزء المركزي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وأدى الجمع بين التأييد الثابت لإسرائيل والجهد المتصل به لنشر الديمقراطية في الإقليم إلى تأجيج الرأي العام العربي والإسلامي وتهديد الأمن الأميركي. وفي محاولة توضيح موقفهما، أكد "جون مورشايمر" و"ستيفن وولت" قضية المصلحة في ردهما على من وجهوا النقد لهما في مقال بعنوان "اللوبي الإسرائيلي: رد المؤلفين"، نُشر في "لندن ريفيو أوف بوكس"،"(مايو 2006) فقالا: "قد يكون أهم جدل حاز شعبية حول قوى مضادة هو القول إن محور علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط هو البترول، وليس إسرائيل. ليس هناك أدنى شك في أن الوصول إلى بترول تلك المنطقة يمثل مصلحة استراتيجية حيوية للغاية بالنسبة للولايات المتحدة. كما أن واشنطن ملتزمة التزاماً عميقاً بمساندة إسرائيل. وعلى ذلك، فإن السؤال المناسب الآن هو: كيف تؤثر كل مصلحة من تلك المصالح في سياسة الولايات المتحدة؟ نحن نؤكد أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط دافعها الأساسي هو الالتزام ناحية إسرائيل، وليس اهتمامها بالبترول. فلو كانت شركات البترول أو الدول المنتجة له هي التي تقود السياسة، لكانت واشنطن ستميل إلى تفضيل الفلسطينيين على الإسرائيليين. والأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة لم تكن لتقود حرباً ضد العراق في مارس 2003، ولم تكن إدارة الرئيس بوش لتهدد باستخدام القوة العسكرية ضد إيران. ورغم ادعاء الكثيرين أن حرب العراق كانت من أجل النفط، فليس هناك أي دليل لدعم هذا الافتراض، بالمقارنة بكثير من الأدلة على التأثير القوي للوبي". ويستند إدراك كثير من المنادين بمقولة قوة اللوبي الصهيوني, وأنه يعمل لمصلحة إسرائيل وضد المصلحة الأميركية، إلى مجموعة من المقدمات المنطقية المعقولة التي تكاد تكون بدهية، من وجهة نظرهم. فهم يقولون إننا لو حكَّمنا العقل ودرسنا الواقع بشكل موضوعي وبدون تحيز لتوصلنا إلى أنه ليس من صالح الولايات المتحدة الأميركية أن تدخل في معركة مع الشعب العربي، بل من صالحها أن تتعاون معه في كل المجالات الممكنة، لأن مثل هذا التعاون سيؤدي إلى استقرار المنطقة العربية وسيعود على الولايات المتحدة بالفائدة. فالعالم العربي يشغل موقعاً استراتيجياً مهماً، فهو يقع في وسط أفريقيا وآسيا، وله امتداد حضاري وسكاني في كليهما، وهو شريك أوروبا في حوض البحر الأبيض المتوسط، ويشكل مركز العالم الإسلامي. ولذا فمن صالح الولايات المتحدة أن تكون علاقاتها جيدة مع شعب يشغل مثل هذا الموقع الاستراتيجي، وألا يزاحمها أحد في مثل هذه المكانة. علاوة على هذا، يضم العالم العربي نسبة ضخمة من بترول العالم ومن مخزونه الاستراتيجي المعروف، وهذا البترول -كما هو معروف- أمر حيوي بالنسبة للمنظومة الصناعية في الغرب، والعرب على استعداد لبيع هذا البترول. وكما قال أحد المعلقين إنه ليس من المحتمل أن يشرب العرب البترول الذي ينتجونه. كما أن الأسواق العربية من أهم الأسواق من منظور تسويق السلع وكذلك استثمار رأس المال. والعلاقة الطيبة بين الدول العربية والولايات المتحدة ستؤدي حتماً إلى تحسين صورتها لا في العالم العربي فحسب بل في العالم الثالث بأسره. ولكن الولايات المتحدة، هذا البلد العقلاني الذي تحكمه معايير عملية عقلانية مادية باردة، لا تسـلك حسـب هـذه المعايير المعقولة البديهية، فهي تتمادى في تأييد إسرائيل وتقف وراءها بكل قوة وتستجلب على نفسها عداء العرب. مثل هذا الوضع شاذ وغير عقلاني لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود قوة خارجية، لا تعمل لصالح الولايات المتحدة ذات مقدرة ضخمة، قادرة على أن تضغط على الولايات المتحدة بحيث تتصرف، ليس بحسب ما تمليه عليها مصالحها الموضوعية، وإنما حسبما تمليه عليها مصالح هذه القوة، أي المصالح اليهودية والصهيونية والإسرائيلية التي يمثلها اللوبي اليهودي والصهيوني. ولكن "المصلحة" ليست أمراً موضوعياً وإنما هي أمر تختلط فيه المعطيات الموضوعية بالرؤية الذاتية. ولذا يطرح السؤال نفسه، كيف ترى الولايات المتحدة مصلحتها؟ هل ترى أن من مصلحتها الدخول في علاقة تبادلية عادلة مع العالم، بما في ذلك العالم العربي والإسلامي، أم أنها قررت أن تهيمن على العالم لتضمن تدفق المواد الخام بأسعار رخيصة واحتكار معظم أسواق العالم؟ وإذا كانت الولايات المتحدة تود الدخول في علاقة تبادلية عادلة مع العالم، ففيم هلعها من معدلات التنمية في الصين، حتى أن استعداداتها العسكرية في مواجهة الصين تتزايد يوماً بعد يوم؟ هذه بعض الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها بإذن الله. والله أعلم.