عندما يذكر "القرآن" اليوم ينصرف الذهن عادة إلى النص المكتوب بين دفتي المصحف، تماماً كما يحدث عندما يذكر أي كتاب آخر من كتب الأقدمين والمعاصرين، المكتوب بهذه اللغة أو تلك. وعندما يكون اهتمام دارس النص، أي نص، منصرفاً إلى معانيه هو وحده، أي كما هو معطى في اللحظة الراهنة، سواء من خلال حروف الهجاء المكتوبة أو من خلال صوت شخص يتلوه، فإن علاقة ذلك الدارس به تبقى تتحرك على مستوى اللغة وحدها، مستوى الدال والمدلول. فاللغة وآلياتها هي وحدها التي تعطي المعنى. وقارئ النص، أو دارسه (والمعنى هنا واحد)، يقرؤه في هذه الحالة من غير اهتمام بمؤلفه، أعني واضعه أو ناقله أو الموحى إليه به. وما يستخلصه هذا القارئ من النص، في هذه الحالة، هو نتيجة لما عبر عنه الأصوليون القدماء بعملية "استثمار الألفاظ". ذلك أن النص لا ينطق بنفسه، بمعانيه ومضامينه، بل هو موضوع استنطاق من طرف دارسه. وعملية استنطاق النص هي -عندما يكون اهتمام مستنطقه منصرفاً فقط إلى ما يمكن أن يعطيه على مستوى العلاقة بين ألفاظه، لا غير- عملية تروم "فهم" النص بصورة مباشرة، أعني بدون تدخل أي عنصر آخر. ويسمى هذا النوع من التعامل مع النص في الاصطلاح الإسلامي، بأسماء مختلفة، من أشهرها "القول بالظاهر"، وقد أطلق على الذين ينحون هذا المنحى بوصفه "المنهج الأفضل" اسم: "الظاهرية". ولا معنى للادعاء بأن هذا النوع من التعامل هو وحده الكفيل بفهم النص "كما هو"، أي نص كان. ذاك لأن العملية، حتى في هذه الحالة، هي -كما قلنا- عملية استنطاق، عملية استثمار للألفاظ. ومع ذلك يمكن القول إن هذا الفهم الذي يعطيه هذا النوع من التعامل هو الفهم الأقرب إلى النص بوصفه مسيجاً باللغة، خاضعاً لقوالب اللغويين والنحاة. والقول الفصل في هذه المسألة هو قصد صاحب النص. هل قصد فعلاً التقيد بقوالب اللغة وسياجها؟ وهذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه بيقين. ذلك لأن قوالب اللغة وقواعدها هي عبارة عن بنيات لا يصنعها الشخص المنتج للنص حين إنتاجه، بل هو يَسْتَضْمِرُها منذ طفولته، ولذلك يمكن القول إنها بنيات قبْلية، سابقة للتفكير والتعبير؛ وبالتالي، فكما تختلف تجارب الأشخاص في جميع مناحي الحياة تقريباً تختلف كذلك على مستوى تجاربهم مع اللغة، على مستوى امتلاكهم لها وقدرتهم على التصرف في قوالبها.. الخ. ومن هنا الاختلاف في فهم النص حتى على مستوى التعامل "الظاهري" معه. على أن ما يطبع التعامل مع النص على هذا المستوى –خصوصاً النصوص الدينية- هو ما يعبر عنه بالتأويل. والتأويل درجات ومستويات وأنواع. فمنه ما هو بمثابة "الترجمة" وهو أن ينقل القارئ إلى لغته الخاصة ما يعتقد أنه مضمون النص، أعني معناه ودلالته. ويطلق، عادة، على هذا النوع من التأويل اسم "التفسير". وهناك التأويل بالمعنى الذي استعملت فيه هذه الكلمة في القرآن، وهو المعنى اللغوي الأصل للكلمة. وعلى العكس مما يُعتقد فليس التأويل بهذا المعنى هو الرجوع إلى "الأول"، إلى الأصل. كلا! بل إنه يعني الذهاب باللفظ (أو العبارة ) إلى ما سيؤول إليه معناه ودلالته. فالكلمة من "آل يؤول مآلا". والمآل –كما هو معروف- هو المصير. ومن هنا كان التأويل هو بيان المآل. ومنه "تأويل الرؤيا"، أو "تفسير الأحلام"، فالهدف هو معرفة المآل. وبالمثل، فتأويل النص الديني معناه معرفة المآل الذي يشير إليه، صراحة أو ضمناً أو من خلال الرموز، رموز الرؤيا. وباستثناء ألواح موسى وبعض الرسائل والخطب فالمادة الشائعة في التوراة هي رؤى أنبيائها. وقد ذكر القرآن من ذلك رؤى معروفة، رؤى إبراهيم ويعقوب ومريم ويوسف..لخ، كما ذكر تأويلها. وفيما عدا هذا، فالتأويل في القرآن يقصد منه، بكيفية عامة، استبيان أحكامه: الوجودية منها والتشريعية والأخلاقية.. الخ. هناك معنى آخر للتأويل يعرف بـ"التأويل الباطني"، وقوامه الاعتقاد بوجود معنى آخر غير الذي يدل عليه ظاهر النص. فالنص في هذه الحالة يتم التعامل معه بوصفه رمزاً، أو جملة رموز. والمعنى الذي يقول به المؤول الباطني لا يستنبطه، في الحقيقة، من النص كما قد يدَّعي، بل يكون في ذهنه أولاً، ثم يبحث له عن طريقة تسمح بتضمينه في النص. والغالب ما تكون هذه الطريقة مبنية على المماثلة، أي على التشابه في العلاقة، وليس على علاقة التشابه. فالتشابه في العلاقة، بين عناصر بنية على مستوى الظاهر، يستبطِن –في نظر المؤول الباطني- تشابهاً مماثلاً بين تلك العناصر على مستوى الباطن. والفرق كبير جداً بين اعتماد علاقة التشابه، وبين الاستناد إلى التشابه في العلاقة. وقد يكفي لإدراك هذا الفرق التنبيه إلى أن تفسير أهل السُّنة للقرآن يعتمد علاقة التشابه: بمعنى أن اشتراك شيئين في وصف أو خاصية.. الخ، قد يجعلهما تحت طائلة حكم واحد، وهذا هو جوهر القياس الفقهي. هذا بينما يعتمد التأويل الباطني التشابه في العلاقة (التشابه أو التماثل بين علاقة "أ" بـ"ب" وبين علاقة "ج" بـ"د" يُتخذ مبرراً للمطابقة بينهما، أعني بين العلاقتين). من ذلك مثلاً تأويل بعض الشيعة الباطنية لقوله تعالى: "مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان. يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" (الرحمن 19/22). لقد أوّلوا "البحرين" على أنهما علي بن أبي طالب، وفاطمة زوجته بنت النبي صلى الله عليه وسلم. وأوّلوا "البرزخ " على أنه النبي، بمعنى أنه جسر يصل بين علي ابن عمه وفاطمة ابنته. وأولوا "اللؤلؤ والمرجان" على أنهما الحسن والحسين ابنا علي وفاطمة، بناء على أنه كما يخرج اللؤلؤ والمرجان من "البحرين" خرج الحسن والحسين من علي وفاطمة. وهكذا يكون المعنى "الباطني" للآيات المذكورة هو: أن الله جعل علياً وفاطمة يلتقيان بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من زواجهما الحسن والحسين. وواضح أنه ليس هناك أي تشابه بين الرسول محمد عليه الصلاة والسلام والبرزخ ولا بين علي وفاطمة والبحرين... وإنما يعتمد في ذلك على التشابه في العلاقة. بمعنى أن العلاقة بين محمد وعلي وفاطمة تشبه من بعض الوجوه العلاقة بين البرزخ والبحرين: فكما أن البرزخ يصل ويربط بين البحرين فكذلك محمد يصل ويربط، من حيث علاقة النسب، بين علي ابن عمه وفاطمة ابنته، وبالمثل فالعلاقة بين علي وفاطمة، والحسن والحسين ابنيهما، تشبه العلاقة بين البحرين واللؤلؤ والمرجان، وذلك من حيث إن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين مثلما "خرج" الحسن والحسين من صلب علي وفاطمة. وفي مقابل المنهجين المذكورين في التعامل مع النص، هناك منهج آخر يقوم على محاولة فهم النص، ليس كما هو معطى في اللحظة الراهنة (لحظة القراءة الظاهرية أو الباطنية) بل من خلال زمنيته وتاريخيته (زمن صاحب النص، قومه ومعهودهم اللغوي واللساني والفكري والاجتماعي، والمرحلة التاريخية التي يندرج فيها والمضامين التي يحملها خطابه.. الخ). وبالنسبة للقرآن الكريم كان هذا النوع من التعامل هو المنهج السائد عند المفسرين القدماء الكبار، وبدرجات. هنا، في هذا النوع من القراءة يتعلق الأمر بـتأويل "مقيد" بما يُعتبر أولاً، أو أصلاً أو سلفاً... و"الأول" هنا قد يكون "مرويات" من السابقين، خاصة منهم الصحابة والتابعين، وقد يكون ما تعطيه اللغة وأساليبها من مواد أولية يعتمدها العقل في الاستنباط والاستنتاج. ومن هنا انقسم "التفسير" (تفسير القرآن) الذي يعتمد هذا النوع من القراءة إلى صنفين: صنف يعتمد "الأثر" أساساً أي المرويات، وصنف يعتمد الدراية أي "الرأي". والواقع أنه ليس هناك سور حديدي بين الصنفين. فالتفسير بالأثر يعتمد الرأي في جزء منه، فالمفسر يختار نوعاً خاصاً من الروايات يفاضل بينها، صراحة أو ضمناً. وباختياره رواية وتركه أخرى يكون قد اختار رأي صاحبها. وكذلك الشأن في التفسير بـ"الرأي"، إذ غالباً ما يلتمس صاحبه، مما يُروى عن هذه المرجعية أو تلك، حججاً تعضد ما يذهب إليه. ومع أن الفرق كبير بين هذين الصنفين من "التأويل المقيد" فإن هناك ما يجمع بينهما وهو أنهما يتعاملان مع النص القرآني كما هو معطى في لحظة القراءة، أعني كما هو "بين دفتي المصحف"، بوصفه نصاً "بلسان عربي مبين" من جهة، وأنه "تنزيل من رب العالمين" من جهة أخرى. وكل من يبحث في القرآن، أي نوع من البحث، لابد أن يراعي فيه هذا الطابع المزدوج، (النسبي لغة، المطلق مصدراً). وإذا هو لم يفعل ذلك فإنه سيكون كمن جرد موضوعه من هويته.