"أتعتقدين أن الأبطال الصرب اغتصبوا أولئك المسلمات البشعات؟ إنهن، رائحتهن تزكم الأنوف"، كانت هذه إحدى العبارات الواردة في الرسالة التي وصلت إلى الممثلة "ميريانا كارانوفيتش". وكانت الرسالة قد كتبت باللغة السلافية بواسطة آلة كاتبة قديمة.
لقد شعرت بالصدمة في حين بدت "ميريانا" هادئة، وقالت لي بينما كنت أدقق في الرسالة لأعرف من أين أُرسلت "في هذه الرسالة على الأقل لم يهددوني". كان الطابع البريدي، وهو صورة لزهرة نادرة، يحمل ختم البريد السويسري.
ولما كان فيلمنا "غرابافيتشا"، الذي سُمي كذلك نسبة إلى أحد أحياء سراييفو التي احتلها الجيش الصربي خلال حرب البوسنة ما بين 1992 و1995، لم يُعرض بعد في سويسرا، فإن المرسل المجهول لا يمكنه أن يكون قد شاهده. غير أن حقيقة أن "ميريانا"، وهي أشهر ممثلات صربيا، وافقت على أداء دور مسلمة بوسنية تعرضت للاغتصاب في معتقل صربي أمرٌ كاف ليثير رسائل الكراهية "باسم الصرب". ونحن نتناول وجبة الغداء في أحد مطاعم سراييفو، قالت لي ميريانا: "إن أصدقائي في بلغراد يهنئونني على شجاعتي وصمودي في وجه الانتقادات".
وإذا كان أصدقاء "ميريانا" يهنئونها، فلأنها شكلت على مدى شهر ونيف هدفاً لحملة تشنيع محمومة شنتها وسائل الإعلام الصربية الراديكالية التي وصفت "ميريانا" بالخائنة الصربية لظهورها في الفيلم البوسني الذي قمت بإخراجه، مُنادين بمنعها من الظهور في المسارح أو الأفلام داخل البلاد.
و"ميريانا" امرأة جريئة وشجاعة لأنها تتحدث علناً حول أحداث الحرب الأخيرة التي لا يرغب معظم مواطني صربيا في سماعها. إلا أنها تقول بغير قليل من التواضع "لا أرى شجاعة في ما أقوم به. أعتقد أن ذلك شيء عادي". والحال أنها امرأة شجاعة بالفعل، وقد كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتني إلى أن أمنحها الدور الرئيسي في الفيلم.
"بعد الوضع قلت: لا أريدها، أبعدوها عني. سمعت بكاءها، كان صوت بكائها يخترق الجدران ليصلني... وفي اليوم الثاني، قلت: حسناً، سأرضعها، ولكن مرة واحدة فقط. وعندما أتوا بها... عندما حملتها بين ذراعي... كانت صغيرة جداً... وجميلة جداً. لقد كنت نسيت أن ثمة شيئا جميلاً في العالم". كان هذا مقتطفاً من المونولوج الذي تصف فيه الشخصية التي قامت "ميريانا" بأدائها قرارها الذي اتخذته بالاحتفاظ بالمولودة التي حملت بها بعد تعرضها للاغتصاب. والواقع أن "ميريانا" لعبت الدور بقوة كبيرة وأحاسيس عميقة. وقد كانت للجمهور في برلين وسراييفو وبلغراد ردود فعل بنفس القوة، إلا أن ثمة أشخاصاً لا يرغبون في أن يتم عرض الفيلم. والواقع أنه ما لم يحدث تغيير مفاجئ، فإنه لن يُعرض لدى "صرب البوسنة"، أي الجزء البوسني الواقع تحت الإدارة الصربية.
ولا يتعلق الأمر هنا بحظر رسمي. فقد شاهد مالك الصالة السينمائية الوحيدة هناك الفيلم قبل عرضه الأول في مهرجان برلين السينمائي. ولما كان رأيه أن الفيلم ممتازٌ وغير مسيء لأحد، قرر عرضه في المدينة البوسنية الصربية "بانيا لوكا" في مارس الماضي، لكنه غير رأيه فجأة بعد ردود الفعل القوية التي صدرت عن الصرب الراديكاليين في البوسنة وصربيا إزاء الكلمة التي ألقيتها في برلين، والتي دعوت فيها إلى ضرورة إلقاء القبض على "رادوفان كارديتش" و"راتكو ملاديتش".
فقبل أكثر من عشر سنين، أدانت محكمة جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة "كرادزيتش" و"ملاديتش" لارتكابهما جرائم حرب وجرائم إبادة خلال حرب البوسنة، التي قتل فيها نحو 100000 شخص وطرد فيها نحو 2.5 مليون شخص من ديارهم. واليوم وبعد مرور ما يزيد على عقد من الزمن، ما يزالان هاربين من قبضة العدالة.
لقد كان مالك صالة السينما خائفاً من أن تقوم الجماعات الصربية الفاشية المؤيدة لمجرمي الحرب بتخريب صالته السينمائية أو أن يستعمل أعضاؤها اتصالاتهم وعلاقاتهم الرسمية لتضييق الخناق عليه بمراقبة ضرائبه وتفتيش صالته وتدميره تحت غطاء القانون. والحقيقة أن لمخاوفه ما يبررها نظراً لأن "كاراديتش" و"ملاديتش" يتمتعان بدعم مسؤولي الحكومة في صربيا، وينظر إليهما باعتبارهما بطلين قوميين.
ولكن، لنتخيل أن ألمانيا النازية لم تهزم في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكنها منحت بدلاً من ذلك أراضي حيث تؤسس جمهورية "خالصة" عرقياً، وحيث أرواح اليهود والمعادين للفاشية معرضة للخطر. الحقيقة أن ذلك هو واقع حال "صرب البوسنة" اليوم.
لقد أصدرت مؤسسة "يورو إيميدجز" التابعة لـ"مجلس أوروبا"، وهي الجهة الممولة للفيلم، بلاغاً تحتج فيه على قرار عدم عرض الفيلم، معتبرة أنه يخرق مبدأ حرية التعبير. والحال أن "يورو إيميدجز" لا تستطيع حماية مالك صالة العرض من الخطر الحقيقي المتمثل في إمكانية مهاجمة الغوغاء لجمهور الفيلم.
ولذلك يمكن القول بعد مرور أحد عشر عاماً على الحرب إن مجرمي الحرب ما يزالون يديرون حياتنا اليومية.
وكان صديق لي في "بانيا لوكا" قد بعث إلي برسالة نصية تقول إن "نسخة مقرصنة من "غرابافيتشا" تباع سراً هنا. وقد سمعت أن ثمة إقبالاً كبيراً عليها. و