خلافا للاعتقاد السائد بأن حركات التمرد العراقية لا تعدو كونها شرذمة غير منظمة من الجماعات ذات التكتيكات المختلفة والأهداف المتباينة تشير الدراسات التي أجريت حول تلك الحركات إلى وجود تنسيق متزايد بين مكوناتها المختلفة، فضلا عن تعزيز مستمر لقدراتها وتنامي ثقتها بإمكانياتها. ورغم غياب تقديرات دقيقة حول العدد الحقيقي للمقاتلين الناشطين في صفوف التمرد، فإن المراقبين يجمعون على أن العدد يتراوح بين بضعة آلاف وأكثر من 50 ألف مقاتل. كما يعتقد بأن الغالبية العظمى من المتمردين، أو ما نسبته 90% من المتمردين، هم من العراقيين، وتحديدا من الطائفة السنية التي حكمت البلاد طوال قرون متوالية. ومع ذلك يؤكد القادة العسكريون الأميركيون في العراق أن الهجمات الأكثر دموية، بما فيها التفجيرات الانتحارية، ترتكبها مجموعات صغيرة من المقاتلين العرب الذين قدموا إلى العراق من الدول المجاورة؛ مثل الأردن وسوريا والسعودية ومصر والسودان.
يشار إلى أن العديد من الجماعات المتمردة استطاعت الظهور بقوة على الساحة العراقية طيلة الفترة التي أعقبت سقوط بغداد ودخول القوات الأميركية إلى العراق، وتنوعت مسمياتها لكن الهدف ظل واحدا ويتمثل في إيقاع أفدح الخسائر بالجيش الأميركي لإرغامه على مغادرة البلاد. وبإلقاء نظرة على خريطة التمرد العراقي والجماعات المنضوية تحت لوائه يطالعنا "مجلس شوى المجاهدين" الذي أعلن عن تشكيله في 21 يناير الماضي، حيث يؤشر على تحول التمرد من جماعات متفرقة إلى نواة موحدة خاضعة تحت قيادة قوية. وقد صهر هذا المجلس في بوتقته شبكة "القاعدة" التي تتلقى دعما خارجياً بزعامة الأردني "أبو مصعب الزرقاوي"، بالإضافة إلى جماعات عراقية صغيرة. ويعتقد أن زعيم المجلس هو رجل عراقي في خطوة محسوبة تسعى إلى إبعاد صورة "القاعدة" الخاضعة لسيطرة عناصر عربية من خارج العراق، رغم أنها قد لا تكون سوى خطوة تندرج في إطار العلاقات العامة. وحسب المراقبين تستهدف الهجمات التي يشرف عليها "مجلس شورى المجاهدين" الجنود الأميركيين والعراقيين، فضلا عن بعض المدنيين الشيعة. ويذكر أن "ابن مالك" و"الأنصار"، وهما لواءان تابعان للمجلس، متخصصان في تنفيذ الهجمات الانتحارية. أما "لواء عمر" التابع أيضا للمجلس فيقتصر على استهداف الميليشيات الشيعية، خصوصا أعضاء "منظمة بدر".
بالإضافة إلى ذلك تبرز جماعة أخرى تطلق على نفسها "أنصار السنة"، وهي متفرعة عن "أنصار الإسلام" التي نشأت أول الأمر في كردستان لتختفي عن الأنظار فترة طويلة. وتتشكل الغالبية العظمى من قادتها وجنودها من السنة العراقيين الذين ينتمون إلى التيار السلفي الداعي إلى العودة إلى المنابع الإسلامية الأولى، ما يكسبها تعاطفا لدى شرائح مهمة في العالم العربي. ورغم أن تكتيكاتها تقترب كثيرا من "القاعدة"، سواء من حيث الهجمات الانتحارية أو من حيث الأيديولوجية الدينية التي توظفانها، فإنهما تتنافسان على اكتساب النفوذ داخل الساحة العراقية. ولعل من أشهر الهجمات التي نفذها "أنصار السنة" تفجير عبوة ناسفة في إحدى الطرقات أدت إلى مقتل 14 من قوات مشاة البحرية الأميركية في هجوم اعتبر الأسوأ منذ بداية الحرب. وهناك أيضا "الجيش الإسلامي"، وهو جماعة ترمي إلى طرد القوات الأميركية من العراق، ويتكون أساساً من العراقيين السنة، بمن فيهم الموالون لنظام صدام حسين وحزب "البعث" السابق، ويعتبر "الجيش الإسلامي" جماعة قومية أكثر منها دينية، وهو ما تظهره الهجمات التي ينفذها، حيث تستهدف الجنود الأميركيين من دون الانخراط في التفجيرات الانتحارية، فضلا عن أنها تبتعد قدر الإمكان عن الأهداف العراقية وتقتصر على المتعاقدين غير العراقيين.
ويقوم "الجيش الإسلامي" أيضا بتصوير جميع عملياته، كما ينشر مجلة شهرية تدعى "الفرسان". وقد نفى بشدة الشائعات التي راجت في الصيف الماضي حول دخوله في مفاوضات مع الحكومة المؤقتة من أجل إلقاء السلاح. ويضم "الجيش الإسلامي" في صفوفه "قناصاً" ماهراً يدعى "جوبي" اكتسب شهرة واسعة بعد قتله للعديد من أفراد الجيش الأميركي في بغداد خلال فصل الصيف الماضي. ومازال النقاش دائرا بشأن "الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية" التي تمتلك قدرات إعلامية كبيرة وحول ما إذا كانت جماعة مسلحة حقا، أم أنها مجرد ذراع إعلامي لجماعة أخرى. فـ"الجبهة الإسلامية" تمتلك موقعا على الإنترنت تقوم بتحديثه أولاً بأول، كما أنها تنشر مجلة "الجامع". وقد أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ مجموعة من الهجمات في مدينة الموصل ثالث أكبر مدينة في العراق.
أما "جيش المجاهدين" فيتصدر الجماعات العراقية المسلحة، حيث أذاع العديد من الشرائط المصورة التي تظهر عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية. وقد سارع السنة الماضية إلى نفي أي تقارب مع الحكومة العراقية بعدما انتشرت شائعات تفيد بذلك. ويذكر أن "جيش المجاهدين" كان من الجماعات الأولى التي دعت إلى استهداف القوات الدانمركية على خلفية الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.