تكتسي مسألة ترتيب موضوعات علم من العلوم أهمية قصوى من الناحيتين: الإبيستيمولوجية والبيداغوجية معا. فمن الناحية الأولى لا يمكن استيعاب تلك الموضوعات استيعابا شاملا ما لم تصنف وترتب على أساس منهجي منطقي. ومن الناحية الثانية لا يمكن تعليمها بسهولة ويسر ما لم تكن القسمة فيها حاصرة متسلسلة مترابطة يؤدي السابق منها إلى اللاحق ولا يتقدمه.
ولكي يتحقق ذلك في النحو العربي يرى ابن رشد أنه لا بد من إعادة بناء مسائله وفق المبدأ المنهجي الذي يراعى في سائر العلوم، والذي يقول: (البسيط من كل شيء قبل المركب). وبناء عليه فـالترتيب العلمي لموضوعات النحو العربي يقتضي الابتداء بالألفاظ المفردة أولا، تليها الألفاظ المركبة (الجمل)، ثم اللواحق بعد ذلك، والهدف دراسة (الأشكال)(أو الصيغ) التي تكون عليها هذه الألفاظ. وهذا ما يتناوله ابن رشد في القسم الأول من كتابه. أما الإعراب وهو أهم أقسام النحو وأكثرها فائدة فيخصص له القسم الثاني. مبتدئا بحصر أصنافه حسب أصناف الكلام، ويحصر كل صنف حسب أصناف العوامل الداخلة عليه.، مراعيا المبدأ العلمي السابق :(البسيط من كل شيء قبل المركب).
وبناء عليه فالمعربات صنفان: الألفاظ المفردة التي تتألف منها الجمل، وهذه الجمل نفسها، وبالتالي فقوانين الإعراب ستكون صنفين: قوانين تخص الألفاظ المفردة التي تتركب منها الجمل، وقوانين تخص الجمل نفسها. ولما كان اللفظ لا إعراب له إلا ذا كان جزءا من جملة، وكانت الجمل صنفين، بسيطة ومركبة، والبسيط منها جمل إما خبرية (مبتدأ وخبر، فعل وفاعل) وإما إنشائية (أمر، نهي، نداء، تعجب··· إلخ)، وكانت الخبرية صنفان : صنف مركب تركيب تقييد معنوي (بفعل أو حرف)، وصنف مركب تركيب تقييد لفظي، انقسمت قوانين الإعراب كذلك إلى هذه الأصناف.
ولما كان المجال هنا لا يسمح بتتبع ابن رشد في عملية إعادة بناء النحو العربي خطوة خطوة، فإننا سنقتصر على جملة أمثلة، تخص بعض قوانين الأعراب كما صاغها ابن رشد:
1- قوانين القول الخبري البسيط غير المقيد: لما كان هذا الصنف لا يكون فيه إلا تركيب جزئي واحد، ففيه قانون واحد هو: (كل اسم يكون خبرا أو مخبرا عنه، من غير أن يدخل على الجملة لا فعل ولا حرف عامل، لا مقدر ولا مظهر، فهو مرفوع: المبتدأ والخبر، والفاعل، ونائب الفاعل (باعتبار الفاعل ونائبه مخبر عنهما بالفعل). ثم يشرح الأحوال التي تعتري الفعل الذي يخبر عنه (= صيغ الفعل المبني للمجهول)، والأحوال التي تخص الاسم الذي يخبر عنه بهذا الفعل حسب ما يكون هذا الفعل متعديا بغير حرف الجر أو متعديا به، متعديا إلى فعل واحد أو إلى فعلين··· إلخ.
2- قوانين القول الخبري المقيد بالأفعال، وهي خمسة:
1- كل جملة من ابتداء وخبر دخلت عليها كان وأخواتها فالمبتدأ على حاله مرفوع والخبر يعود منصوبا، إلا أن يتقدم الاسم على كان (زيد كان منطلقا) فيعرب مبتدأ وخبر كان ضمير مستتر.( ثم يذكر أخوات كان، ويميز بين (كان) التامة، و(كان) الناقصة وأحكامهما)·
2 - كل جملة خبرية دخل عليها لفظ (ظننت) أو (أعلمت) وأخواتها من أفعال النفس فإن هذه الأفعال إذا تقدمت في ترتيب الكلام في الجملة الخبرية نصبت المبتدأ والخبر (ظننت زيدا قائما)، فإن توسطت بين المبتدأ والخبر أو تأخرت عنهما جاز النصب والرفع: تقول: زيد ظننت منطلقٌ، وزيدا ظننته منطلقا.
3- كل اسم جنس دخل عليه بئس أو نعم فإن كان فيه الألف واللام فهو مرفوع، والاسم الذي خصص به الاسم العام مرفوع أيضا: نعم الرجلُ زيدٌ. ولهم في رفعه مذهبان أحدهما أنه مبتدأ وخبر، والآخر أنه خبر المبتدأ. وإن كان الاسم، الذي قيد بنعم أو بئس، نكرة فهو منصوب والمخصص له مرفوع: نعم رجلاً زيدٌ. ولا يقيد بهذين الفعلين إلا أسماء الأجناس وما يضاف إلى أسماء الأجناس، لا أسماء الأعيان.
4 - كل اسم أخبر عنه بـ (حَبّ) موصولا بـ(ذا)، نحو حبذا زيدٌ، فهو مرفوع، ولا يقع هذا الاسم أبدا في كلامهم إلا مؤخرا عن حبذا. وللنحاة في رفعه ثلاثة مذاهب: أحدها على أنه مبتدأ، والثاني على أنه خبر، والثالث على أنه فاعل يرتفع بحبذا.
5- كل اسم دخل عليه عسى أو كاد أو قارب وما أشبه ذلك من الأفعال فإنه مرفوع، والخبر في هذا القول إذا كان فعلا مع عسى فالأجود أن تكون مع (أَنْ)نحو عسى زيد أن يحج. وأما (كاد) فالأجود أن تكون بغير (أن): كاد زيد يدخل المدينة، ويجوز خلاف هذا. وقد يقع الخبر في عسى اسما في مثل قولهم: عسى الغوير أبؤسا.
3- قوانين الخبر المقيد بالحروف، وهي أربعة:
1- كل قول مؤلف من ابتداء وخبر دخل عليه إن وأخواتها فإن المبتدأ يعود منصوبا ويبقى الخبر على حاله مرفوعا، نحو إن زيدا منطلقٌ. (يلي ذلك ذكر مواضع كسر إن وفتحها وتخفيفها وخواص كل منها··· إلخ)·
2 - كل جملة خبرية دخل عليها حرف (ما) النافية، فإن المبتدأ يبقى على حاله مرفوعا (ما زيدٌ قائم)· وينتصب الخبر على لغة أهل الحجاز إلا أن يدخل على (ما) حرف (إلا) الذي يوجب ما نفته (ما) متقدما الخبر: ما زيدٌ إلا قائم. وفي لغة بني تميم