مرت بمصر أحداث جسام هذا الشهر، غطى بعضها على بعض آخر· وتداخلت الأمور، تشابكت وتعقدت مثل أحوال الصوفية· فلم يعد أحد يدري هل هو في حالة خوف أم رجاء، هيبة أم أنس، حزن أم فرح، قبض أم بسط، غيبة أم حضور· المضحكات والمبكيات شيء واحد·
كان الحدث الأكبر هو الدورة الأفريقية لكرة القدم والذي غطى على معرض القاهرة الدولي للكتاب، الثاني في الأهمية بعد معرض فرانكفورت· وامتلأت الصحف بأخبار الدورة أكثر من أخبار المعرض وكان الاستعداد والدعاية لها أفضل من الاستعداد للمعرض· بلغ عدد زوار الاستاد الرياضي خمسة وسبعين ألفا في كل مباراة، وبيعت تذاكرها في السوق السوداء من الكبار والصغار· وبلغت حصيلة كل مباراة ما يقرب من الثلاثة ملايين جنيه مصري· ولم يتجاوز زوار معرض الكتاب عدة آلاف كل يوم بعد أن زادت تذكرة الدخول أربع مرات· وكان في الماضي يفتح أبوابه مجانا للجميع· فالقراءة للجميع· وأغلق المعرض أبوابه مبكرا مساء حتى يشاهد الجمهور المباراة· ويوم الجمعة تغلق أبواب المعرض في منتصف النهار بعد الصلاة استعدادا ليوم الحسم في الكرة· وتفتح في الصباح والناس تستيقظ متأخرا وتذهب إلى الصلاة مباشرة· فبدأت استعدادات الناشرين للرحيل من اليوم السابق يوم الخميس·
وافتتح الرئيس الدورة الأفريقية كما حضر الحفل الختامي لتوزيع الجوائز·
وبقدر نجاح الدورة الأفريقية لكرة القدم من حيث التنظيم ومتابعة الجمهور بقدر ما فشل معرض الكتاب الدولي· فقد بدأ بخلاف بين الناشرين المصريين ورئيس الهيئة حول إقامة إدارة المعرض حوائط عازلة أمام عرض الكتب تمنع الجمهور من الرؤية· وهددوا بالمغادرة· وتضامن معهم الناشرون العرب·
وتقلصت الأنشطة الثقافية إلى الحد الأدنى تحت شعار ''لا سياسة في المعرض، ولا معرض في السياسة'' مع أن الثقافة سياسة، والسياسة ثقافة فيما يعرف بالثقافة السياسية· وهو نفس شعار ''لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة'' مع أن السياسة تستعمل الدين لتحريك الجماهير في ''لاهوت التحرير'' كما فعلت الحركات الإصلاحية، الأفغاني والكواكبي وعلال الفاسي والبشير الإبراهيمي وعبدالحميد بن باديس· كما يستعمل الدين السياسة لتحقيق مثله العليا عن طريق الممارسة السياسية· وهو نفس شعار ''لا سياسة في الجامعة، ولا جامعة في السياسة''· فماتت الجامعة ولم تعد قادرة على تخريج علماء متخصصين ولا مواطنين صالحين· وفرق بين معرض القاهرة الدولي للكتاب بإدارة أستاذ جامعي يعرف قيمة الثقافة والحوار الثقافي بين كل اتجاهات الفكر والعمل في الحياة الوطنية مع استقلال نسبي عن الدولة، وبين إدارته بلواء في الشرطة أو الجيش أو باستئجار هيئة لتنظيم المعرض بناء على علاقات المصالح المتبادلة· وحضرت مصر الدورة الأفريقية لكرة القدم في القاهرة، وغابت عن مؤتمر الاتحاد الأفريقي في الخرطوم· ومصر هي البلد المؤسس لمنظمة الوحدة الأفريقية إبان حركات التحرر الوطني في أفريقيا، ولم تكن هناك إلا ثلاث دول أفريقية مستقلة· وكانت معظم حركات النضال الوطني الأفريقي لها مكاتبها في القاهرة· وسارت الشائعات حول سبب غياب مصر عن أفريقيا، وفي الخرطوم عاصمة وادي النيل، وفي وقت السودان في خطر، ومهدد بالعدوان بحجة دارفور كما حدث في العراق، وتقسيم القطر الشقيق بين غربه وشرقه، بين شماله وجنوبه· هل هي الورقة التي تدعو إلى اعتبار المغرب العربي جزءا من أفريقيا وليس من الوطن العربي كي تحمل همومه في فلسطين والعراق؟ وهي الدعوة الفرنسية الاستعمارية القديمة لقسمة الوطن العربي إلى مشرق ومغرب، مشرق صوفي إشراقي ديني، ومغرب عقلاني علمي مدني· المشرق أقرب إلى فارس والهند، والمغرب أقرب إلى فرنسا· وهي الدعوة التي روج لها أيضا طه حسين في ''مستقبل الثقافة في مصر''· هل لم ترد مصر إحراج نفسها بتبني سياسة خارجية معادية لتدخل القوى الأجنبية في السودان منذ استبعادها عن مؤتمر المصالحة الوطنية بين شمال السودان وجنوبه ومشكلة دارفور في طريقها إلى التدويل وتدخل الأمم المتحدة؟ هل قررت مصر منذ مدة الاحتجاب، تعكف على شأنها، ولا تبدد مواردها في حروب إقليمية على حدودها؟ وقد تحول الاستنزاف الخارجي إلى استنزاف داخلي بنهب ثروتها ببيع القطاع العام، وتهريب الأموال، والإسراف في مظاهر الترف، والثراء الفاحش للقلة على حساب الأغلبية· وعمت الأفراح بعد نيل مصر كأس أفريقيا للمرة الخامسة· ونزلت الآلاف إلى الشوارع، ترقص وتغني وتصيح· وترفع الأعلام الملونة، وتدهن الوجوه، وتلبس القبعات حتى الصباح· وغطت الأفراح على أحزان ألف شهيد، غرقى العبَّارة· وبدلا من أن يُعلن الحداد الوطني ثلاثة أيام وتنكس الأعلام، عمت الأفراح وآلاف المصريين لا يعرفون أين جثث ذويهم، في بطون أسماك القرش أم داخل العبَّارة في أعماق البحر؟
وتحول السخط العام على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد والذي يخشى منه من اندلاع انتفاضة ثالثة أسوة بالانتفاضة الأولى في يناير 1977 والثانية، انتفاضة الأمن المركزي في ،1986 تحول إلى فرح عارم ووهم بالا