أميركا هل هي الآن فعلاً إمبراطورية تتربع منفردة فوق عرش العالم، وإذا كان الأمر كذلك هل يعتبر ذلك مفيدا للعالم أم لا؟ كان هذا السؤال مثار جدل حاد طيلة السنوات الأخيرة تقاذفته مجموعة من الباحثين والمتابعين للشأن العالمي على امتداد الطيف السياسي الأميركي المتأرجح بين نعوم تشومسكي في أقصى اليسار إلى باتريك بوكنان على ضفة اليمين المقابلة· أما مؤلف الكتاب الذي نعرضه روبرت كابلان فيمكن تصنيفه في خانة الوسط رغم أنه لا ينفي اعتقاده الراسخ بأن أميركا هي فعلا إمبراطورية كما يدل على ذلك عنوان الكتاب الذي يسعى من خلاله إلى استكناه طبيعة تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف عبر استكشاف قواتها المرابطة في المناطق المختلفة من العالم واستطلاع أوضاع تلك القوات التي تعتبر في رأي الكاتب يد أميركا الممدودة ووسيلتها الأكثر فاعلية لممارسة نفوذها في العالم·
ولم يكتف المؤلف بالجلوس إلى مكتبه والاستغراق في التحليلات المجردة والاستنتاجات البعيدة عن الميدان الذي تشكله الأحداث والوقائع الفعلية، بل آثر النزول من برج المثقف العاجي إلى أرض الواقع وراح يقضي الشهور الطويلة بين وحدات الجيش الأميركي المرابطة في البلدان المختلفة يرصد من خلالها تجليات الإمبراطورية وتأثيرها في تغيير مجرى التاريخ لصالح أميركا ومصالحها المتشابكة في العالم· وبعدما استقر رأيه على مشروع الكتاب شد المؤلف رحاله إلى بلدان بعيدة متعقبا التواجد الأميركي ومحاولا استجلاء حقيقة ذلك التواجد في كل من الفلبين في شرق آسيا، وكولومبيا في جنوب أميركا· في المحطة الأولى من رحلته الشاقة والممتعة في نفس الوقت كون كابلان نظرة شاملة عن الجهود الأميركية الدؤوبة لمحاربة أبو سياف، زعيم حركة التمرد الإسلامية في جنوب الفلبين حيث يتخذ من الجزر المتفرقة في جنوب البلاد قاعدة لشن هجماته على جيش مانيلا· وحسب المؤلف تحارب أميركا جماعة أبو سياف نظرا للعلاقات المفترضة بينها وبين تنظيم ''القاعدة''· بيد أن الضعف الواضح الذي يعتري الجيش الفلبيني وعجزه عن خوض حرب عصابات طويلة الأمد دفع الولايات المتحدة إلى الاكتفاء بمساعدة حكومة مانيلا لربح معركة القلوب والعقول التي تشنها أميركا في العديد من البلدان·
بعد الفلبين يغير كابلان وجهته إلى جنوب أميركا، وتحديدا كولومبيا البلد الذي مزقته أربعة عقود من الحرب الداخلية ضد الجيش الثوري الكولومبي ذي الميول الماركسية والذي يتخذ من تجارة المخدرات وسيلة لتمويل عملياته ضد الحكومة· وبالرغم من المصالح الأميركية الملحة في كولومبيا، إلا أن الكونجرس رفض نشر قوات أميركية كبيرة في ذلك البلد مفضلا الاحتفاظ بقوات رمزية لا تتعدى 400 جندي في بلد يبلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة· وللوقوف على طبيعة مهمة القوات الأميركية في كولومبيا قضى كابلان جزءاً من شتاء 2003 مع القوات الخاصة الأميركية المتخصصة في مكافحة التمرد وسط الغابات الكولومبية لينتهي إلى أن الدور الرئيس لتلك القوات يقتصر على تدريب الجيش الكولومبي على التصدي لجيش الثوار· ويبدو أن المؤلف بعد هاتين التجربتين كان بعيدا عن إرواء فضوله المعرفي في تعقب القوات الأميركية عبر العالم، لذا لم يكتف بالفلبين وكولومبيا، بل راح يجول في اليمن وأفغانستان ومنغوليا والقرن الإفريقي ثم العراق راصدا التحركات الأميركية على امتداد هذه المناطق المتباعدة جغرافيا·
وطيلة حله وترحاله لم يغفل كابلان عن رسم صورة شخصية الجندي الأميركي الذي فضل التطوع لخدمة الجيش وتعريض حياته للخطر بعيدا بآلاف الأميال عن وطنه منخرطا في المشروع الأميركي عن اقتناع وطيب خاطر· والصورة الناصعة التي يشكلها كابلان أمام أعيننا هي لجنود يتمتعون بحس عالٍ من الانضباط العسكري، وعلى درجة جيدة من التعليم تحدوهم الرغبة الأكيدة في خدمة بلدهم والالتزام بالأوامر التي يصدرها رؤساؤهم من الضباط· فعلى سبيل المثال سيعثر المؤلف خلال رحلته إلى أفغانستان في قاعدة أميركية جنوب كابول على وحدة عسكرية يتكون أفرادها من الحرس الوطني الأميركي التحقوا بالجيش بسبب حسهم الوطني العالي وتعطشهم من أجل المغامرة، حيث أسر له أحد الجنود قائلا ''إننا نشبه سياحاً يحملون السلاح''· غير أن المؤلف الذي يبدو مقتنعا بالتوسع العسكري الأميركي وامتداده الاستراتيجي فوق رقعة واسعة من الأرض يرجع ذلك إلى ما قبل أحداث 11 سبتمبر· ففي نظره لم تسهم تلك الأحداث سوى في تركيز الاهتمام أكثر على مظاهر الإمبراطورية بعدما دخلت واشنطن في حروب بعيدة· الولايات المتحدة كانت تملك قبل 11 سبتمبر 59 قاعدة عسكرية منتشرة في العديد من البلدان، كما كان يقوم الجيش الأميركي بعملياته في 170 دولة كل سنة· وحسب كلمات المؤلف نفسه كانت الولايات المتحدة بحلول 2000 ''تسيطر على معظم العالم ويمكنها اجتياح أكثر مناطقه عتمة بجنودها كلما أرادت ذلك''· وللتدليل على طول أيدي أميركا الممتدة في جميع أنحاء العالم يقترح كابلان القيام بزيارة إلى السفارة الأميركية في مانيلا عاصمة الفلبين لإلقا