النتائج التي حققها الإخوان المسلمون في مصر تدفع إلى التأمل في حاضر ومآلات الإسلام الحركي في المنطقة· فلئن كان هناك تفهم لما قد تجره سيطرة الإسلاميين على التسيس العام في أي مجتمع أو بلد إسلامي على المدى القصير، فإن الأمر ربما يأخذ تقديرات أخرى على المدى الطويل والذي له علاقة أوثق بمسارات التاريخ والانعطافات الكبرى· بل يمكن التجرؤ أكثر والقول إنه إذا كانت ثمة مهمة تاريخية لتيار الإسلام السياسي في القرن العشرين سيرصدها مؤرخو المستقبل فهي التسريع في عملية علمنة الإسلام ودفع الاجتماع الإسلامي بشكل عام ليقترب من نمط الاجتماع المدني القائم على فصل الدين عن الدولة، واقعيا وليس تنظيرياً وسجالياً· هذا التسريع سيكون هو الثمرة المفاجئة لخليط من صيرورات النضج المرير وتراكمات الفشل في تحقيق الطوباويات الكبرى وتأسيس ''الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي'' وفق التنظير الحركي الصارم· وتراكمات الفشل المذكور عبر العقود الماضية تزيد من توضيح المعالم والمحطات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تجمد عندها تيار الإسلام السياسي في خضم صخب تصاعد قوته الشعبية والخطابية· ولربما ليس من قبيل التقدير المبالغ فيه القول إن ذلك الفشل سوف يأخذ أيضاً ملامح أكثر بروزاً في السنوات القادمة، ويبني على ما صار معروفاً من نهايات مأساوية في أكثر من تجربة إسلامية حركية (طالبان أفغانستان، ترابية السودان، وخمينية إيران)· أما في التجارب الإسلامية غير الحركية في بلدان أخرى تزعم نوعاً من ''الإسلامية'' كشرعية للنظام السياسي فيها فإن الفشل أكثر وضوحا، لكن هذه التجارب مشطوبة أصلاً من جدول حركات الإسلام السياسي إذ تعتبر الأنظمة التي فيها أنظمة غير إسلامية أصلاً، بحسب رؤية الجزء المتطرف من تلك الحركات· على ذلك، ومن منظور أوسع يمكن اعتبار نتائج الإخوان المسلمين في مصر عنصراً من عناصر تلك الصيرورة التي يبدو أنه لابد لمجتمعاتنا أن تمر فيها·
العقود الماضية أثبتت أمرين متناقضين، أولهما القدرة الهائلة للحركية الإسلامية على التجنيد والتعبئة وطرح الشعارات السهلة والمخترقة للشرائح الأوسع في الرأي العام· وثانيهما، الفشل الذريع في طرح مشروع دولة ومجتمع معاصر يحول التعبئة والتجنيد الاحتجاجيين إلى مشروع ناجح ودائم وذي فاعلية حضارية حاضرة راهنا أو على الأقل واعدة مستقبلاً· لكن الفشل التاريخي الذي حدث وما زال يتواصل الحدوث في جانب التجربة الحركية الإسلامية مهم وإيجابي وسيكون الحامل الأساسي لعملية انتقال مفهومي ثقافوي عميق (أو ''برادايمي'') في قلب المجتمعات العربية والإسلامية· وتتمثل تلك العملية الانتقالية القائمة على التجربة (الدموية) ذات الأكلاف الباهظة في توليد وتكريس أساس وعقد اجتماعي جديد مبني على قناعات جمعوية وتأسيسية عميقة في وسط الرأي العام في المجتمعات المعنية بضرورة تحييد الدين عن السياسة واجتراح صيغ خاصة بالثقافة والتقليد الإسلامي تعمل على بلورة ذلك التحييد· سينبني ذلك الأساس الاقتناعي العريض تدريجياً وبعد مرارة الفشل الحركي الإسلامي على قناعة قائمة على الممارسة العملية والاختبار المباشر، وليس كنتيجة لسجال نظري دام لعدة عقود حتى الآن· من دون أن يتم فصل الدين عن السياسة على الطريقة الغربية فإن الديمقراطية العربية والإسلامية المأمولة ستظل عرجاء وقيد التهديد، وتظل الشرعية السياسية التي تأتي بها تلك الديمقراطية مهددة من قبل الشرعيات الدينية وستسقط ضحية لها في أية لحظة توتر أو صدام· رافضو هذه المقولة أكثر من قابليها في الفضاء الثقافي والفكري العربي لأسباب أكثر بكثير من أن تسرد في هذا السياق، هذه حقيقة لابد من تسجيلها هنا· لكن جذور الرفض أيديولوجية وليست عملية ولا سوسيولوجية، وفي جزء كبير منها ارتدادية وليست موضوعية، أي أنها تصدر عن رد فعل ضد الغرب لأن فكرة الفصل بين الإثنين غربية، أكثر مما هي تناقش الفكرة بحيادية· والحقيقة الإضافية الأخرى التي يمكن تسجيلها هنا هي أن تلك المقولة يمكن أن تدعي قدرا كبيرا من الدقة بناء على التجربة العربية والإسلامية على أرض الواقع، وهي ليست سجالية نظرية· لكن يبقى المهم أن هذه المقولة، بعد جيل منقضٍ من الفشل الإسلامي الذي لا جدال فيه وجيل قادم من الفشل الشبيه، ستكون ذات قيمة عملية وفكرية وشعبية·
ستظل مقولة فشل الإسلام السياسي خلافية في الوقت الحاضر، خاصة في ضوء تزايد قوة الحركات الإسلامية في معظم المجتمعات الإسلامية، كما في ضوء اتساع نطاق عمل ونشاط الإرهاب الأصولي القاعدي في طول وعرض العالم· بيد أن ذلك التزايد والاتساع، إن بصيغته المعتدلة أو المتطرفة، سيتطور وفق منحيات متعرجة، ليست بالضرورة متصاعدة أو مكتسبة لشعبية دائمة التأييد· وهو تزايد واتساع يعكس تعبيرات متطرفة لارتدادات وتوترات وخضَّات ناتجة عن الصدمات الحضارية والعسكرية التي واجهتها تلك المجتمعات أكثر منها خياراً طبيعياً وواعيا وعاكساً لتفاعلات واستجابات للاحتياجات الاجتماعية والتوافقية المحل