حين تطأ أقدام المرء أرض المدينة المنورة يشعر بنوع عجيب من السكينة، وهو شعور غريب لا يجد المرء مثيله في أية مدينة أخرى على ظهر البسيطة· والعودة إلى المدينة المنورة بعد غياب دام اثنتي عشرة سنة يمثل استرجاعاً لذكريات المدينة، ولآثارها الدارسة التي لم يبق منها إلا القليل· فالمدينة لطفل صغير لم يكن يبلغ التاسعة من عمره تمثل صوراً جميلة لمحطة القطار القديم (الأسنسيون) الذي كان يربط عاصمة الدولة العثمانية بعاصمة دولة الخلافة الإسلامية· والمدينة القديمة تمثل في الذهن صورة سوق الكعك الذي يصنع المدنيون منه قرابة ثلاثة عشر نوعاً، وتعبق منه رائحة الكعك المختلطة برائحة النعناع· وتفوح من نواحٍ أخرى في تلك الأسواق رائحة رطب المدينة وعنبها اللذين يقطران حلاوة وشهداً·
ولطفل صغير يسعى في ركب أبيه صباح كل يوم قاصداً المسجد النبوي، تحيط به تحف معمارية مكونة من حجر أسود بركاني أصم، لكنه ينطق بالحياة في شارع ''العيينة'' القديم· والنساء والصبايا يطللن من نوافذهن الخشبية على البائعين والعابرين في ذلك الشارع القديم·
هكذا عدت إلى المدينة المنورة بعد غياب طويل·· عدت إليها وأنا أذكر مكتبتها القديمة في قبلة المسجد، وقد حلّ محلّها العديد من البنايات والعمائر الضخمة التي تضم أغنياء الزوار الذين يستطيعون أن يدفعوا الكثير والكثير للبقاء في صحبة أهل المدينة الأخيار ولو لأيام قليلة·
وأهل المدينة المنورة، وأنا لست منهم، من أهدأ الناس وأوقرهم، تكاد لا تسمع طفلاً ينطق بكلمة نابية في شوارعها· ويعود ذلك إلى تربية عميقة ومتأصلة في نفوس الصغار والكبار في هذه المدينة المقدّسة، والتي تربي كل أسرة فيها أطفالها على احترام صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، وخفض الصوت، فهو يعيش مع أصحابه الأجلاء أبوبكر وعمر، رضي الله عنهم على بعد أمتار قليلة منهم·
تذكرت ذلك وأنا أزور مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لأرى أروقة عالية ممتدة تتسع لآلاف المصلين، ومكيّفة تكييفاً عالياً· وتذكرت هذا المسجد حين بناه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكان بناءً صغيراً لا تتعدى مساحته 1060 متراً مربعاً· وقفت أمام ضريح النبي وأصحابه، أسلِّم عليهم وتهزني رهبة الموقف، وأنا ألقي السلام على رجل حمل رسالة السماء إلى الخليقة، وغيّر الكون بهذه الرسالة، وبنى إمبراطورية روحانية امتدت آلاف الكيلومترات من أقصى الشرق إلى جبال أطلس المغربية، خلال ثلاثين سنةٍ· هزّني الموقف وأصبت بشيء من الوجل وأنا أُقرأ السلام على النبي وصاحبيه، ولولا تدافع الزوار من حولي لهممت أن أقف في هذا الموقف ساعات طويلة·
رأيت الأنوار المضيئة المحيطة بالمسجد النبوي الشريف وفنائه، وتذكرت إنارة المسجد حين بناه الرسول صلى الله عليه وسلم أول مرة، وكانت توقد في أطرافه مشاعل يستخدم فيها جريد النخل تارة، وزيوت الطعام تارة أخرى·
عدت إلى المدينة وأنا أتذكر سكانها الأوائل من الأوس والخزرج الذين ذهبوا إلى مكة وبايعوا النبي وأصروا على أن يفد إليهم وينزل ديارهم هو وصحبه من المهاجرين· تذكرت أولئك القوم وهم يضربون بدفوفهم ''طلع البدر علينا'' وهم يستقبلون النبي وصاحبه إلى مدينتهم الجديدة·
تذكرت هؤلاء الأنصار الذين تحولوا إلى مؤمنين حقيقيين يناصرون الدعوة الجديدة ويذودون عنها بكل ما يملكون· تذكرتهم وقد تحولوا بفضل الدين الجديد من عمال زراعيين فقراء إلى مقاتلين أشداء يهجرون نخيلهم شهوراً عديدة طوال السنة، ينشرون الإسلام في العراق والشام وفارس ومصر وغيرها من الأمصار·
تذكرت مساجد المدينة، التي جُددت وتغيرت ملامح معظمها، ولم أعد أتعرف منها إلا على مسجد القبلتين، والذي لا زال يحوي محرابين أحدهما متجه نحو مدينة القدس (أعادها الله إلى حظيرة العرب والمسلمين) والقبلة الأخرى متجهة إلى مكة المكرمة، بعد أن نزل الوحي الإلهي بذلك·
وحين خرجت من المسجد النبوي عرجت على البقيع، وهو البقعة الطاهرة التي دفن فيها قرابة عشرة آلاف صحابي جليل وتضم رفات أمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وابنته فاطمة الزهراء، وابنه إبراهيم وعمه العباس، وعمته صفية، وحفيده الحسن بن علي، وغيرهم من أكابر الصحابة والتابعين والمجاورين· وشعرت بأنني لا أزور مقبرة عادية، بل أزور مثوى حياً يضم تراث الأمة كلها· وتمتمت في نفسي دعاءً كان يردده النبي صلى الله عليه وسلم في زياراته المتعددة للبقيع حيث كانت مقبرة لسائر أهل المدينة في حياته عليه الصلاة والسلام، وكان يقول ''السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما تعودون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد''·
تذكرت المدينة في أيام احتفالاتها وبهجتها، في انتصارات النبي وفتوحاته المختلفة، وتذكرت يوم محنتها، يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين وقف الصديق ليخطب في الناس ''من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت''· وتذكرت جموع الصحابة حين اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، تلك ا