ثمة من يعتقد أن السفر، وبخاصة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، ليس فيه سوى متعة "الخضرة والماء والوجه الحسن"! ورغم توفر هذه "المتع" بوفرة في تلك البلاد، فإن الذي اعتاد العمل الجاد غالباً ما يكون "أهبل" يستنفده العمل ولا شيء غير العمل. وبالمناسبة، قليلون هم أولئك الذين يدركون أن البعض منا يجد في العمل متعة عظيمة. لكن ما علينا من كل هذا! وما كنا لنعرض له لولا أنه جاء، تلقائياً، بمناسبة زيارة أخيرة إلى اليونان للتعرف، عن كثب، على الجالية الفلسطينية هناك، تمهيداً لإعداد دراسة هادفة عنها كما فعلنا مع جاليات أخرى في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي. وكل ذلك يأتي ضمن خطة مدروسة تقوم بها "مؤسسة فلسطين الدولية" الساعية إلى تأسيس ما يرقى إلى جسر معرفي من جهة بين "فلسطين" و "أردسطين" (التي طالما تحدث عنها المجلس الوطني الفلسطيني بمضمون مماثل لكن بعبارات مختلفة، والتي طالما نادينا بها كتابة منذ مطلع الثمانينيات) وبين الجاليات المتوزعة على امتداد بلدان العالم من جهة ثانية. وفي صلب الموقف الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، والإسلامي، شتّان ما بين التوجه إلى "أردسطين" شرقاً، والتوجه إلى "إسراطين" غرباً وفقا لاقتراح جاء على لسان زعيم عربي! هذا، مع العلم أن مساعي "المؤسسة" تتركّز على العمل في أوساط الجاليات الفلسطينية و"الأردسطينية" أينما كانت في العالم (لكن خارج نطاق ما كان يعرف يوما بدول "الطوق" المحيط بالدولة العبرية). كذلك، تهدف المؤسسة إلى التجسير ما بين أبناء الجاليات نفسها، علاوة على المساهمة في إغناء حالة الحوار والاتصال بينهم وبين شعوب البلدان التي يقيمون فيها، بما يسهم أولا: في تعزيز مكانتهم في هذه المجتمعات. وثانياً: في خدمة القضايا العربية وفي مقدمتها قضية العرب الأولى (فلسطين). وثالثاً: في توضيح الحقائق وتحسين صورة العرب على الصعيد العالمي. وكي لا أسترسل في شرح ماهية هذه "المؤسسة" وأهدافها ونشاطاتها وإنجازاتها، أبدأ بالاعتراف بأن هذه الرحلة إلى اليونان التي كانت منهكة (وقد سبقتها رحلات منهكة إلى بلدان أخرى) قد غمرتني– رغم الإنهاك- بنشاط استثنائي! ولعل "قوة الدفع" في هذا النشاط الخاص وردت من نبع السعادة التي اجتاحتني على الصعيد العام. وها أنا أشهد شهادة حق بكل ما شاهدته وما لمسته في هذه الرحلة، وما ترك أثراً كبيراً في نفسي.
يا لهذا الشعب الرائع! هؤلاء اليونانيون يأسرونك بلطفهم الطافح، وبفرحهم الدائم الجامح، وبموقفهم من قضية فلسطين وأيضا من الفلسطينيين المفعم بالعشق الكاسح (وليس بموقف "عاشق" فقط للقضية الفلسطينية دون الفلسطينيين – كما بعض العرب!). وبتأثير هذا كله، كم من مرة خطرت على بالي، طوال أيام تلك الزيارة، الحقيقة التاريخية الموثقة القائلة إن عديداً من قدماء الفلسطينيين هم يونانيون أصلاً، جاؤوا من بحر إيجة (قبيلة فلسطينا أو بلسطينا) إلى فلسطين وأعطوها اسمها قبل أن يعبر بها العبرانيون (حيث دارت معارك طاحنة بين هؤلاء وأولئك) وفقا لما جاء في "الموسوعة الفلسطينية" الرائدة الصادرة عن "هيئة الموسوعة الفلسطينية". فقد جاء في "الموسوعة" تأكيد على "مجيء الفلسطيين (وليس الفلسطينيين كما هو الاسم الآن) الذين غزوا جنوب فلسطين حين خرجوا من منابتهم في بحر إيجة حوالي 1184 قبل الميلاد (أي قبيل بدء غزو العبرانيين لفلسطين وتنكيلهم بـ"الأقوام العرب" أهل البلاد الأصليين). وفي هذا الموقف الشعبي (والرسمي) اليوناني المؤيد للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني ما يفرح حقا، وما يمكن استثماره سياسياً إن نحن – معشر العرب- قررنا العمل الجاد في استثمار التأييد الشعبي العالمي على نحو يجعله فاعلاً في خدمة قضايانا وفي الطليعة منها قضية فلسطين.
وعلى صعيد أكثر خصوصية، تجسد النبع الثاني لسعادتي من واقع أن الوجود الفلسطيني في اليونان (أساسا في أثينا الكبرى، وفي سالونيك، وفي جزيرة كريت التي حال ضيق الوقت دون زيارتها هذه المرة) هو على غير ما هو عليه الحال (ولربما على عكس ما هو عليه الحال!) في دول أوروبية أخرى (باستثناء من رحم ربك). ففي اليونان، يجد المرء تناغماً محبباً ومنتجاً بين "تنظيم" الجالية الفلسطينية كجالية أولاً، وبين تنظيم حركة "فتح" (وفصائل أخرى أقل وجوداً على نحو فادح) ثانيا، وبين "تنظيم" الاتحادات الشعبية الفلسطينية ثالثاً، وبين سفارة فلسطين رابعاً. وما كان يمكن لهذا "التناغم الرباعي" أن يتحقق، لولا أن قيادة الجالية وكوادرها، وقيادة الحركة وكوادرها، وقيادة الاتحادات الشعبية وكوادرها، والسفير (مروان عبدالحميد) وكوادر وعموم طاقم السفارة، هم على ما هم عليه من إيمان وحماسة وعطاء "وعقلية جبهوية" موحدة، طبعا باستثناء نتوءات شاذة محدودة للغاية لابد من أن يجدها أي باحث في أي مجتمع، وبخاصة إن كان ذلك "المجتمع" في بلاد الغربة ويعيش ظروفاً خاصة، كما هو حال الجالية الفلسطينية في اليونان، بل حال كل وجود فلسطيني مزروع في المهجر أو المنفى.
وعلى صعيد أشد خصوصية، لا يك