يمكننا أن نستخلص ما شئنا من دروس من الطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع الأمور عقب انتهاء الحرب مع العراق، ولكن أيما كانت تلك الدروس، فليس هناك من درس أكثر بديهية من التالي: أن الديمقراطيات، خصوصا الديمقراطية الغربية ،لا تتماشى مع طبيعة الإمبراطوريات·· لماذا؟·
لأن الإمبراطورية تعني السيطرة- سيطرة المركز على الأطراف· ولكي تنجح الديمقراطيات، فإنها تتطلب إرادة لفرض السيطرة، وقدرة على المحافظة عليها· كما تتطلب إلى جانب ذلك، ومن حين إلى آخر، إرادة وقدرة على شن الحرب، ليس فقط من أجل تحقيق المصالح القومية الحيوية ولكن من أجل تحقيق اهتمامات الإمبراطورية، وهو ما يعني بصورة أخرى أن تلك الحرب يمكن شنها من أجل أولويات أقل شأنا·
كانت حرب العراق تنتمي إلى تلك النوعية من الحروب· ويمكن للجدل أن يستمر -بل إنه سيستمر بالفعل- حول ما إذا كان قرار الهجوم على العراق قرارا حكيما أم لا··· مع العلم أن هذا القرار في جوهره كان قرارا متعلقا بحرب تتم بالاختيار· فنحن لم نكن مضطرين للذهاب إلى الحرب ضد العراق، كما أننا لم نكن بالتأكيد مضطرين لشنها عندما فعلنا ذلك· كانت أمامنا خيارات أخرى: أن نعتمد على أدوات السياسة الأخرى، أو أن نؤجل الحرب، أو الخيارين معا·
من هذه الناحية كانت حرب العراق مختلفة عن الحرب العالمية الثانية ، ومختلفة عن الحرب الكورية، بل ومختلفة حتى عن حرب الخليج · فكل حرب من تلك الحروب، يمكن تصنيفها بأنها كانت حرب ضرورة· وهكذا أيضا تصنف الحرب المفتوحة النهايات ضد تنظيم القاعدة·
وما يميز حروب الضرورة ،هو الاضطرار إلى الاستجابة لاستخدام القوة العسكرية من قبل المعتدي، وعدم وجود أي خيار آخر غير خيار القوة العسكرية لدفع الضرر· وفي مثل تلك الحالات يتكون إجماع آراء يشمل الأمة بأسرها مؤداه أنه ليس هناك من بديل سوى القتال، وهو إجماع تتم ترجمته في صورة إرادة لتخصيص كل ما يتطلبه الأمر، حتى تتمكن الأمة من النصر، بصرف النظر عن التكاليف المادية أو البشرية التي يمكن أن تتحملها·
ولكن حروب الاختيار تختلف عن ذلك اختلافا جذريا· فهذه الحروب يتم خوضها عادة لأسباب ليس من بينها الدفاع الصريح عن النفس، سواء فيما يتعلق بالولايات المتحدة أو فيما يتعلق بأحد حلفائها· وفي مثل هذه الحروب ، تكون هناك خيارات أخرى موجودة غير خيار العمل العسكري هذا أولا· ثانيا، لا يكون في مثل هذه الحروب إجماع وطني على القرار الخاص باستخدام القوة· وحرب فيتنام تمثل نموذجا لهذا النوع من الحروب، وهو ما ينطبق أيضا على الحرب التي خاضتها إدارة كلينتون ضد صربيا من أجل كوسوفو·
إلى ذلك تختلف حروب الاختيار سواء من حيث تكاليفها أو من حيث مدتها· فحرب فيتنام على سبيل المثال كانت حربا طويلة (استغرقت عقداً ونصف عقد من المنظور الأميركي) كما أنها كانت باهظة التكاليف البشرية (58 ألف قتيل) والمادية (مئات المليارات من الدولارات)· على العكس من ذلك كانت حرب كوسوفو التي استغرقت في مجملها 78 يوما، ولم تنتج عنها خسارة جندي أميركي واحد، كما لم تزد تكلفتها على ثلاثة مليارات دولار·
إن الشيء الذي توحي به تجارب الحروب تلك هو أن الشعب الأميركي لا يتأخر عن إبداء استعداده لشن أية حرب من حروب الاختيار طالما أنها ستكون رخيصة التكاليف وقصيرة المدة· أما حروب الاختيار الباهظة التكاليف فالولايات المتحدة ليست مهيأة لتحملها·
هذا هو تحديدا ما نراه في العراق· فالشعب الأميركي يزداد قلقا باطراد، لأسباب لم تعد تخفى على أحد· فنحن نخوض حربا في العراق منذ ثمانية شهور، فقدنا فيها ما يزيد عن 400 أميركي، وبلغت فيها تكلفتنا المادية ما يربو على 100 مليار دولار- وهو مبلغ مرشح للزيادة بالطبع·
إدارة بوش تعرف كل ذلك، ومن هنا نفهم سبب تسريع أجنداتها الزمنية الخاصة بنقل المزيد من السلطة السياسية إلى الشعب العراقي· وفي الحقيقة أن هذا النوع من التصحيح الذي يتم في منتصف الطريق الذي تقوم به الولايات المتحدة، يعكس جزئيا حقائق الواقع السياسي في العراق، والتي يمكننا من خلالها، أن نفهم سبب تقلص الحماس لاستمرار الاحتلال الأميركي لفترة طويلة· الأكثر من ذلك هو أن تحولات السياسة هناك، تعكس أيضا الحقائق السياسية هنا في الوطن· فصبر الشعب الأميركي وقدرته على التحمل وخصوصا تحمل الخسائر البشرية أصبحا محدودين · ومن هنا فإننا نرى أن الرئيس كان حكيما عندما قرر تخفيض مستوى ما نسعى إلى إنجازه هناك· فتحويل العراق إلى دولة تكون فيها الأحوال جيدة بما فيه الكفاية- أي تحويله إلى مجتمع فاعل و ليبرالي نسبيا، وإلى اقتصاد نشط ومفتوح إلى حد معقول، إن لم يكن نموذجا للديمقراطية من النوع الذي لا يوجد سوى في الكتب، فإنه على الأقل يعتبر هدفا مبالغا في طموحه·
بيد أن الحروب الاختيارية تحتاج إلى معالجة خاصة·
فهي تحتاج في المقام الأول إلى حشد الدعم الوطني· وهنا فإن الكونجرس والشعب الأميركي يجب أن ينضما إلى الركب، ليس فقط من خلال بعض الطرق القانونية الرسمية، ولكن بالشكل