شيء من دهاء الراحل جون قرنق
برغم الريبة والشك في نوايا التمرد الذي قاده جون قرنق في جنوب السودان بالنسبة لبقاء هذا القطر عربياً موحداً، فإن أفعال الرجل خلال الشهور الثمانية التي جرت فيها مفاوضات السلام، جعلت المرء ينظر إلى جون قرنق نظرة جديدة تنطلق من أفعاله الأخيرة وليس من ماضيه الذي قاد خلاله التمرد. إن ما يجعل من جون قرنق شخصية أسطورية لدى أبناء الجنوب، هو أنه تمكن خلال الواحد والعشرين عاماً الماضية من القيام بأمرين: الأول هو جعل الحرب الأهلية الدامية تدور حول شخصه وحده، والثاني هو جعل عملية السلام تدور حول شخصه وحده أيضا. لذلك فإن وفاته المفاجئة خلقت جواً من التساؤل حول أي من التراثين اللذين خلفهما هو الذي سيبقى؟
ولأن صفقة السلام التي عُقدت كانت مُسيطراً عليها من قبل قرنق شخصياً، وشركائه الشماليين في المفاوضات، فإن نجاح تلك المفاوضات اعتمد إلى حد كبير على القوة التي لا يستهان بها لشخصية قرنق الكاريزمية وسلطته ونفوذه في أوساط الجنوبيين. لذلك فإن موت قرنق سيشكل اختباراً فيما إذا كانت الرغبة في السلام أعم وأشمل من رغبة رجل واحد. وبرغم التصريح الغامض الذي أدلى به الرئيس الأوغندي حول وجود أمر غير طبيعي في سقوط الطائرة العمودية التي كانت تقل قرنق، فإنه مبدئياً لا توجد دلائل على وجود ممارسات غير مسؤولة بالنسبة لسقوط الطائرة التي تحطمت قرب الحدود السودانية- الأغندية. ولكن يبقى أن الحادث وقع في وقت حرج لم تترسخ فيه عملية السلام بعد.
والآن وبعد أن عينت قيادة "الحركة الشعبية لتحرير السودان" خليفة لقرنق، هو سيلفا كير، هل سيتمكن القادم الجديد من إقناع العديد من الميليشيات الجنوبية المتشنجة بسبب وفاة قائدها، لكي تتمسك باتفاقية السلام وتواصل مسيرته إلى آخر المشوار؟ تجدر الإشارة إلى أنه توجد العديد من الشكوك في أوساط القادة الجنوبيين حول الحكمة من عقد الصفقة، فهي تفسح الطريق أمام فترة انتقالية مدتها ست سنوات يتم خلالها النظر في اختبارات ومقاييس لبناء الثقة، وفي نهاية السنوات الست سيقوم الجنوبيون بالتصويت على ما إذا كانوا يرغبون في الانفصال عن الشمال أم البقاء ضمن سودان موحد؟
إن جون قرنق كان واحداً من الجنوبيين القلة الذين نادوا بقيمة بقاء الشمال والجنوب في وحدة وطنية واحدة، فقد كان مدركاً بأن الجنوب سيتحول إلى أشلاء ممزقة إذا ما انفصل عن الشمال. ويمكن القول إن قرنق قام بحسابات دقيقة توصل من خلالها إلى نتيجة مؤداها أن وحدة الشمال والجنوب السوداني من شأنها أن تساعد على بقاء الجنوب ذاته موحداً، وذلك لأنها ستعمل على إبقاء الجماعات الجنوبية، وهي تركز على كيفية التعامل مع الشمال، عوضاً عن أن تبدأ في الاقتتال فيما بينها، نتيجة للفراغ السياسي الذي سينشأ بسبب تمزق الجنوب. ويضاف إلى ذلك أن الجنوب منفرداً قد يتعرض لأطماع الجيران الأقوياء بسبب ثرواته النفطية والطبيعية الأخرى. وهي أطماع قد تصبح كارثية إذا ما فقد الجنوب مظلته الشمالية التي تشكل عمقاً استراتيجياً لا يستطيع حكماء الجنوب أن يغضوا الطرف عنه.
إن هذا النوع من الدهاء السياسي الكامن هو الذي أعطى جون قرنق اللمعان الذي حظي به في أوساط الجنوبيين، ولدى الأطراف الخارجية التي أيدته، وهو الذي جعل منه أيضاً الرجل الوحيد القادر على إبقاء الجنوب وحدة متماسكة. إن سيلفا كير وبعد أن أصبح نائباً أول للرئيس السوداني، عليه الآن العمل مع الشمال عن قرب، وبكل صدق وأمانة، لكي يمكن التصدي سوياً لقضية رئيسية تقف وراء صراعات السودان، هي ما إذا كانت أقاليم القطر المتمردة: الجنوب ودارفور والشرق، ستحصل على المزيد من السلطة والدعم الاقتصادي مما كانت ستحصل عليه تقليدياً من الحكومة المركزية في الخرطوم.
إن السودان خسر قرنق في وقت هو أحوج ما يكون فيه إليه، فهل تعمل جميع الأطراف السودانية على إكمال المسيرة التي بدأها يداً بيد مع أقرانه الشماليين؟ سؤال حائر إجابته تكمن في عقول وأفئدة القادمين الجدد وعهدهم الجديد، مثلما تكمن في علم الغيب. دعونا نتضرع إلى الله أن يحفظ السودان من كل خطر يحمله له المستقبل، اللهم آمين.