سيدور الحديث في هذا المقال حول الإشكالية التالية: إلى أي مدى يمكن التحرر من الإيديولوجيا، والبحث في موضوع العولمة ومسألة الهوية بحثاً علمياً؟
سؤال ينشد الوضوح، باعتبار أن ذلك هو هدف البحث العلمي. ولكن هل عناصر هذا السؤال واضحة كلها؟ إن وضوح السؤال شرط في الوصول إلى نتائج واضحة على صعيد الجواب، هذا أمر بديهي. لنبدأ إذن بإضفاء أكبر قدر ممكن من الوضوح على السؤال. لنحدد مجال السؤال وعناصره الأساسية.
لعل أول ما ينبغي البدء به هو استبعاد الفكرة الجاهزة التي تتبادر إلى الذهن لتضفي وضوحاً زائفاً على الموضوع، الفكرة التي تربط التقابل بين العولمة ومسألة الهوية بالتقابل بين الدول المصنعة المتقدمة داعية العولمة والمستفيد الأول منها وهي دول "الشمال"، وبين البلدان الفقيرة أو القريبة من الفقيرة والتي تصنف ضمن الجنوب. إنها فكرة جاهزة مضللة ليس لأنها خاطئة كلياً بل لأن مثل هذا الربط يجر الباحث إلى تركيز النظر على هذا "التقابل" وحده وقراءة الموضوع وكأنه مظهر من مظاهر التقابل أو الصراع بين الغرب والشرق، بين الغرب /الشمال والشرق/الجنوب. هذا في حين أن مفعول العولمة سواء على مستوى الهوية أو غيرها يمكن رصده أيضاً، وربما بوضوح أكثر داخل "الشمال" نفسه. سنركز بحثنا إذن في الموضوع المطروح على مجال أوسع، خارج ضغط تلك الفكرة الجاهزة، معتمدين معطيات الواقع كما هي، منطلقين من توضيح المفاهيم الأساسية المستعملة في البحث.
يتكون عنوان هذا البحث من خمسة مفاهيم أو عناصر لابد من عقد اتفاق بيننا وبين القارئ بشأنها، أعني حول المعنى الذي نعطيه لها هنا. هذه العناصر هي: إشكالية، العولمة، الهوية، البحث العلمي، الخطاب الإيديولوجي.
لقد استعملنا لفظ "الإشكالية" ولم نستعمل "المشكلة" قصداً. والفرق بينهما، عندنا, يتلخص في كون المشكلة تتميز بكونها يمكن الوصول بشأنها إلى حل يلغيها. فـ"المشاكل" في الحساب تنتهي إلى حل، باستثناء بعض المعادلات الرياضية التي يكون حلها، أعني التخلص منها بعد البحث والمحاولة، بالإعلان عن كونها لا تقبل الحل. أما المشاكل المالية والاقتصادية والاجتماعية عموماً, والمشاكل التي يصادفها العلماء في العلوم الطبيعية بمختلف أنواعها, فهي جميعاً تنتهي إلى نوع من الحل، آجلا أو عاجلا، ما دام المجال الذي تطرح فيه ينتمي إلى الواقع الموضوعي ويقبل نوعاً ما من التجريب. وفي هذا الإطار يصدق قول ماركس: "إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تقدر على حلها". لماذا؟ لأن "المشاكل"، بهذا المعنى، إنما تظهر من خلال تقدم البحث، فاكتساب مزيد من المعرفة بموضوع ما يفتح الطريق أمام اكتشاف مجاهيل جديدة، تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة.
هذا هو تصورنا لمعنى "المشكلة"، وأعتقد أنه من الممكن التعاقد مع القارئ على هذا المعنى. كما يمكن التعاقد على معنى أضيق أو أوسع؛ ففي هذا المجال، مجال الحدود والتعريفات، ليس هناك برهان، وإنما تعاقد واتفاق بين الباحث والمتلقي (وقد يكون المتلقي هو الباحث نفسه)! فبدون هذا لا يمكن الوصول إلى برهان، فالبرهان إنما يبنى، من جملة ما يبنى عليه، على الحدود والتعريفات.
هذا عن لفظ "المشكلة"، وأمرها لا يحتاج إلى مزيد بيان. أما "الإشكالية"، فهي شيء آخر. فعلاً، يستعمل كثير من الكتاب والقراء (عندنا في العالم العربي) –أو يفهمون- هذا اللفظ ونسيبه "المشكلة" من غير تدقيق، وكأنهما من الألفاظ التي يجوز أن ينوب بعضها مناب بعض (وهل هناك فعلا ألفاظ يجوز فيها ذلك بدون غرض ومبرر؟). ومهما يكن, فنحن نستعمل هنا لفظ "إشكالية" في معنى محدد –ولو أنه معقد- غير معنى "المشكلة". وفيما يلي تفاصيل عقد (تعريف) نقترحه على القارئ. ولا يخطرن بالبال أن التعريفات والحدود تصاغ كيف اتفق. كلا. ليس لأحد أن يقترح تعريفاً إلا إذا كان هذا التعريف يزيدنا معرفة بالمعرف به ويفسح المجال أمامنا لمزيد من المعرفة بالموضوع الذي نبحث فيه. ولعل القارئ سيلاحظ هذا بوضوح فيما نحن يصدده.
لقد سبق أن حددنا ما نعنيه بهذا المصطلح منذ أن بدأ يشيع ويذيع في خطابنا العربي المعاصر( نحن والتراث 1980). لقد كتبنا آنذاك في هذا الموضوع ما يلي: "على الرغم من أن كلمة إشكالية من الكلمات المولدة في اللغة العربية (وهي ترجمة موفقة لكلمةproblématique ) فإن جذرها العربي يحمل جانباً أساسياً من معناها الاصطلاحي. يقال: أشكل عليه الأمر بمعنى التبس واختلط. وهذا مظهر من مظاهر المعنى الاصطلاحي المعاصر للكلمة (ولكنه مظهر فقط). ذلك أن الإشكالية هي، في الاصطلاح المعاصر، منظومة من العلاقات التي تنسجها، داخل فكر معين (فكر فرد أو فكر جماعة), مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل، -من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعاً. وبعبارة أخرى: إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري".
لم نعمد هنا إلى استرجاع هذا التعريف جزافاً، بل ن