يذهب التراث الديني اليهودي إلى أن التوراة هي حياة اليهود، وأن الجنس البشري ليس له من هدف سوى أن يتعلم من الشعب اليهودي. وقد طرح الحاخامات هذا السؤال: لماذا أنزل الإله التوراة على اليهود وحدهم، وليس على غيرهم من الأمم؟ أليس في هذا محاباة لليهود؟ وحتى يبعد الحاخامات التهمة عن الإله وحتى يجيبوا على اعتراض بعض الملائكة الذين قالوا إن الشعب اليهودي ليس مؤهلاً بما فيه الكفاية لحمل التوراة، ورد في التلمود أن الإله عرض التوراة على كثير من الشعوب بما في ذلك نسل إسماعيل (أي العرب) فرفضوها لأن فيها قواعد أخلاقية لا يمكنهم الالتزام بها. ثم يركز النص التلمودي على العرب الذين قالوا إنه لا يمكنهم قبول التوراة لا في ذلك الوقت (أي حين عُرضت عليهم) ولا في المستقبل، لأن التوراة تقول "لا تسرق" وهم لا يمكنهم أن يقبلوا حظر السرقة. فقد أخبر ملاك الرب هاجر أن إسماعيل أبا العرب غير قادر على التحكم في نفسه، وأن يده ستكون دائماً في ممتلكات الآخرين، ويد الآخرين ستكون في ممتلكاته، وأنه سيقيم خيامه على حدود أراضي الآخرين. والصورة التي يرسمها التلمود هي صورة العربي كبدوي يتنقل من مكان إلى آخر ليسرق الآخرين، ويسرقه الآخرون. حينئذ عرض الإله التوراة على اليهود فقالوا: "سنطيعك أولاً ثم نفهم بعد ذلك". (ولنقارن هذه الفكرة الحلولية بالتصور الإسلامي التوحيدي العالمي، فقد عُرضت الرسالة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). وثمة رؤية متعصبة إثنية تضع اليهود في مقابل بقية الجنس البشري وتؤكد مركزية اليهود في التاريخ الإنساني وأفضليتهم على الجميع، ومن ثم تمنحهم حقوقا مطلقة.
ولكنني أحذر دائماً في دراساتي من أمرين، أولهما تصور أن الدولة الصهيونية دولة يهودية وأن الصهيونية حركة تضرب بجذورها في التوراة والتلمود. والثاني هو مرض النصوصية أي, أن يتصور الباحث أن إسرائيل تتصرف حسب ما جاء في النصوص المقدسة اليهودية. فإسرائيل – في تصوري – دولة استيطانية استعمارية إحلالية تتصرف وفقاً لمصالحها الاستعمارية وقوتها الذاتية وموازين القوى الداخلية والدولية، شأنها شأن أي جيب استعماري استيطاني إحلالي آخر.
ونموذج تفسير السلوك من خلال النصوص نموذج اختزالي يفترض أن ثمة تماثلاً كاملاً بين النص المقدَّس وسلوك الإنسان. ويتجاهل التفسير النصوصي عدة عناصر، من بينها أن اليهودية، باعتبارها تركيباً جيولوجياً تراكمياً، لها عدة كتب مقدَّسة كُتبت في عدة مراحل تاريخية وتحتوي على رؤى للكون مختلفة بل ومتناقضة. كما أن الكتب المقدَّسة عند اليهود لا تشغل المركزية نفسها التي يشغلها القرآن في الإسلام وهي كتب متناقضة بشكل واضح. فتوحيدية كتب الأنبياء متناقضة بشكل جذري مع حلولية القبَّالاه. والتلمود، هذا الكتاب الضخم المكون من سبعة عشر مجلداً ضخماً (في الترجمة الإنجليزية) والذي كُتب على مدار ألف عام وكتبه مئات الحاخامات، يحوي الشيء ونقيضه: (يوجد نص في التلمود يقول خير لليهود أن يحكمهم العرب من أن يحكمهم أي شعب آخر!).
ويتجاهل التفسير النصوصي تركيبية الدوافع الإنسانية والظروف التي تؤثر في سلوك الإنسان وأن النص لا يتحكم في سلوك اليهود. وتُسقط النصوصية أمراً مهماً للغاية وهو أن كثيراً من اليهود لا يعرفون نصوصهم المقدَّسة مع تزايد معدلات العلمنة. وقد صرح ما يزيد على 86 في المئة من الإسرائيليين بأنهم لم يقرؤوا التلمود قط، ولعلهم لا يعرفون سوى بعض السطور التي ترد في بعض المقالات والدراسات. كما أن غالبية يهود العالم لا تؤمن الآن باليهودية كعقيدة ومن ثم لا تؤمن بكتبها المقدَّسة ولا تعيرها التفاتاً، إذ انتقل اهتمام غالبية أعضاء الجماعات اليهودية من العقيدة اليهودية إلى الإثنية اليهودية والثقافة اليهودية (عادةً ذات الجذور الشرق أوروبية)، وفي الوقت الحاضر تحول كل هذا إلى عدم اكتراث باليهودية من منظور ديني أو اثني. ولهذا، أصبحت الكتب المقدَّسة اليهودية بمنزلة الفلكلور لهم، ومن ثم ليست ملزمة.
وتتجاهل النصوصية قضية التفسير، فالنص المقدس يمكن أن يُفسر تفسيراً إنسانياً عالمياً، كما يُمكن أن يُفسر تفسيراً ضيقاً متعصباً. والتفسير النصوصي ليست له قيمة كبيرة، وهو دائماً تفسير بأثر رجعي، أي أنه يفسر الظاهرة بعد وقوعها ولا يَصلُح للتنبؤ بسلوك اليهودي ومخططاته. ويظهر ضعف المقدرة التفسيرية للنصوص في محاولة تفسير التوسعية الصهيونية. فعادةً ما يُقال إن التوسعية الصهيونية جزء من المخطط الصهيوني، ثم يُشار إلى عبارات مثل "من النيل إلى الفرات" باعتبارها دليلاً قاطعاً على ذلك. ولكن من المعروف أن خريطة "إرتس إسرائيل" كما وردت في العهد القديم غير محددة المعالم، وخريطة إسرائيل الكبرى لم يتم الاتفاق عليها. كما أن التوسـعية الصهـيونية لم تتبع أي نمط يمكن تفسيره بالعودة إلى النصوص. فمن المعروف أن الضفة الشرقية لنهر الأردن تتمتع بقداسة خاصة في الوجدان الديني اليهودي، فهي جزء لا يتجزأ من "إرتس إ