هناك مثل يردده أهل الشام يقول "احترنا يا قرعة.. من وين بدنا نبوسك!".. ويقال في الشخص الذي تحتار معه وتعجز عن إقناعه بأي أمر.. حيث يجد لكل أمر مخرجاً ومنفذاً يلف ويدور حولهما لرفض كل ما يقدم إليه..
وورطة الولايات المتحدة الأميركية، والغرب عموما، مع العالم العربي في مسألة إدخال الإصلاحات والديمقراطية إلى الجسد السياسي العربي الذي أصابه داء الفردية والديكتاتورية والشمولية، حتى نخر كل عظامه، هي ورطة شبيهة بمن تورط مع "القرعة التي احترنا من وين بدنا نبوسها!!"..
فحين كانت الولايات المتحدة تساند الأنظمة وتتجاهل الشعوب، كانت اللعنات تنزل عليها وعلى سياستها الخارجية دون رحمة، لأنها كانت تتبع سياسة خرقاء، على اعتبار أنها كانت تتزعم الدعوة للحرية والديمقراطية، ولكنها في نفس الوقت تدعم أنظمة فاشية حولت الأوطان إلى معتقلات الرعب والتعذيب وسحق الإنسان وحقوقه وآدميته.. وكان الحق كل الحق مع أولئك الذين يصبون جام غضبهم على السياسة الأميركية آنذاك، وخاصة في الفترة التي امتدت من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الألفية الثالثة.
اليوم ارتأت العقلية الأميركية أن السياسة التي اتبعتها إبان فترة الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، لم تحقق لها سوى المزيد من الحقد والكراهية، فلا الأنظمة الديكتاتورية بقيت ولا الشعوب خرجت راضية عن أميركا. ومن هنا كان لابد من أن تجري العقلية الأميركية عملية صيانة شاملة، إن صح التعبير، لكل السياسات التي كانت متبعة في الماضي، وتحول بوصلة الاهتمام إلى مخاطبة الشعوب والتعامل معها بدلا من كسب ود الأنظمة.
ولكن حين ارتفعت الدعوات في الغرب، وفي أميركا تحديدا، بضرورة إجراء الإصلاحات السياسية والديمقراطية وفي مجال حقوق الإنسان وحقوق المرأة في الوطن العربي، واجهت السياسة الأميركية الجديدة عاصفة هوجاء من التصدي والاحتجاجات وانبرت أصوات عربية، من مفكرين وأدباء ومثقفين وإعلاميين وحتى سياسيين، رافضة تلك الدعوة بحجة أن الإصلاح يأتي من الداخل ولا يستورد من الخارج؟!
وحكاية "الإصلاح المستورد من الخارج" التي طلع بها علينا بعض المثقفين العرب، تجعلني أسرح بفكري إلى الخيال، وأسأل نفسي وهؤلاء الرافضين لاستيراد الإصلاح من الخارج السؤال التالي: هل لدينا في داخل العالم العربي ديمقراطية، إلى درجة التخمة، بحيث لم نعد بحاجة لمن يصدرها إلينا من الخارج؟!.. وهل وصل الإنسان العربي إلى درجة التشبع في مسألة حقوق الإنسان وحرية التعبير بحيث لم يعد معهما في حاجة لمن يتصدق عليه بـ"شوية إصلاحات ديمقراطية" من الخارج؟!..
إن من يستمع إلى بعض "المفكرين" و"المثقفين" العرب وهم يصدحون بأعلى أصواتهم، رافضين أي تغيير أو إصلاح سياسي أو ديمقراطي أو أي حديث آتٍ من الغرب عن حقوق الإنسان، يعتقد أن العالم العربي يعيش أحلى أيامه مع الديمقراطية ومع حرية التعبير عن الرأي ومع الحرية الإعلامية ومع حقوق الفرد والإنسان، ولم يعد بحاجة لأي تغيير، بل يظن الواحد أن من كثرة ما لدينا من حرية وإصلاحات وديمقراطية، فإننا على استعداد لتصديره إلى الغرب، وتدريس الديمقراطية العربية في الجامعات الأميركية!
لقد احتار العالم معنا نحن العرب، فلا نحن لدينا الحد الأدنى من الممارسة الديمقراطية، ولا سجل محترم في مجال الحريات أو حقوق الإنسان، وأجهزتنا ينخرها الفساد في المجالات كافة، ومع ذلك نرفض الإصلاح من الخارج بحجة أن صلاحنا "منا وفينا" ويبدأ من الداخل.. حقا "احترنا يا قرعة..!!".