قليلة هي الأمراض التي ارتبطت عبر التاريخ بالإيمان وبالاستغراق الديني، أو بتلبس واستحواذ الجن والشياطين على المريض، مثلما هو الحال مع مرض الصرع. ففي التاريخ القديم، وصل ارتباط مرض الصرع بتلك الظروف والعوامل، إلى درجة أن العامة والأطباء على حد سواء في اليونان القديمة، وصفوه بالمرض المقدس (Sacred Disease) نتيجة اعتقادهم بأن النوبات التي تصيب المصابين به، هي من جراء استحواذ الجن والشياطين، ونتيجة تفسيرهم للهلوسة السمعية والبصرية التي تصاحب أحيانا تلك النوبات، على أنها رؤية دينية تحمل رسالة من الآلهة للجنس البشري عبر مريض الصرع. وظلت هذه الرؤية الخرافية سائدة عبر قرون طويلة من الطب القديم، دون أن يتحداها أو يشكك فيها أحد، ما عدا الطبيب اليوناني الشهير أبوقراط، الذي كتب يقول "إلى أن نتمكن من فهم الطبيعة الحقيقية للصرع، ستظل دائما صفة التقديس ملازمة لهذا المرض".
الطبيعة الحقيقية لهذا المرض هي أنه اضطراب عصبي مزمن، يتميز بتعرض الشخص المصاب لنوبات متكررة. ورغم مرور قرابة الخمسة وعشرين قرنا منذ عصر أبوقراط، لا زال الأطباء يجهلون أسباب الصرع. وإن كان بعض العلماء يحاولون تفسير نوبات الصرع، على أنها نتيجة لعوامل خارجية مختلفة ومتباينة، مثل الحمى أو الضوضاء أو التسمم أو اختلال توازن الأملاح في الجسم. ولكن رغم أن نوبات التشنج الانقباضية أو الانبساطية يمكن أن تصيب أي شخص نتيجة الحمى أو تناول جرعة زائدة من بعض العقاقير، إلا أن هؤلاء الأشخاص لا يتم تصنيفهم على أنهم مصابون بالصرع. وهو ما يدفعنا للاستنتاج بأن الظروف سابقة الذكر، ليست هي السبب الرئيس خلف الإصابة بالصرع، بل هي مجرد عوامل تتسبب في حدوث النوبات لدى الأشخاص المصابين من الأساس باختلال عصبي في المخ. ولذا لابد أن يتضمن تشخيص الإصابة بالصرع، إصابة المريض بنوبات متكررة عبر فترة زمنية طويلة، وبشكل لا يمكن التنبؤ به، أي بدون أن يكون هناك سبب مباشر وواضح لحدوث تلك النوبات.
والغريب أنه في سبعين في المئة من حالات الإصابة بالصرع، لا يمكن الكشف عن السبب المباشر خلفها، حتى مع استخدام أحدث التقنيات العلمية المتوفرة حاليا. أما في الثلاثين في المئة الباقية من الحالات، فغالبا ما يكون السبب هو حدوث إصابة سابقة للمخ أو وجود ندبة في خلاياه أو شكل من أشكال التشوه التشريحي (Malformation) وبغض النظر عن السبب، غالبا ما يصاحب الصرع بوجود اضطراب واختلال في النشاط الكهربائي لخلايا وأجزاء المخ، والذي يمكن الكشف عنه من خلال رسم المخ الكهربائي (EEG) ويؤمن البعض بأن الصرع يمكن أن يصيب أي شخص في أي مرحلة من العمر، وبدون أن يكون هناك أدنى سبب واضح للإصابة، وإن كانت معظم الحالات تحدث لدى من هم أقل من سن الثامنة عشرة أو في من تخطوا سن الخامسة والستين. وتفيد الإحصائيات أن الصرع يصيب 2.5% من جميع أفراد الجنس البشري، وإن كانت بعض التقديرات تشير إلى أن معدلات الإصابة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك بكثير.
ففي بريطانيا مثلا، يصيب الصرع أكثر من 300 ألف شخص، ويتم تشخيص ثمانين حالة إصابة جديدة في اليوم الواحد. وبوجه عام، يتعرض شخص واحد من بين كل خمسين للإصابة بالصرع، ويتعرض شخص واحد من بين كل عشرين لنوبة تشنج واحدة على الأقل. هذا الانتشار الواسع للصرع، يجعل أحيانا من الصعب تصديق قائمة الأشخاص التاريخية التي أصيبت بهذا المرض. فمثلا على صعيد الشخصيات السياسية العسكرية التي كانت مصابة بالصرع، تحتوي القائمة على القائد الشهير الإسكندر الأكبر، والقرطاجني هانيبعل، والروماني يوليوس قيصر. وفي العصور الأكثر حداثة أصاب الصرع كلا من: الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت، والقيصر الروسي بطرس الأكبر، والرئيس الأميركي إبراهام لينكولن، والسوفيتي فلاديمير لينين. وعلى صعيد الأدباء والفنانين، أصاب الصرع النحات الإيطالي مايكل أنجلو، والرسام الهولندي فان جوخ، والكاتب البريطاني تشارلز ديكنز، والروائية الشهيرة أجاثا كريستي. ولم يسلم أيضا الفلاسفة والعلماء من الصرع، حيث أصاب الصرع من بين فلاسفة اليونان القديمة كلا من أرسطو وسقراط. ومن بين العلماء، أصاب الصرع العالم والفنان الإيطالي ليوناردو دي فينشي، والعالم البريطاني إسحق نيوتن صاحب قوانين الجاذبية، والعالم السويدي ألفرد نوبل مخترع الديناميت ومؤسس جائزة نوبل الشهيرة.
هذه القائمة المثيرة للإعجاب، تلقي بظلال من الشك حول ما يتداول أحيانا حول العلاقة بين الصرع، وبين انخفاض القدرات الإدراكية المعرفية للمصابين به. فمن المعروف أن الإصابة بالصرع تترافق مع تدهور نسبي في العمليات الذهنية العقلية المتعلقة بالإدراك والمعرفة، وإن كانت الشكوك تحيط حاليا بالأدوية التي تستخدم لعلاج الصرع، وليس بسبب المرض ذاته. هذه الشكوك أكدتها دراسة أجريت في أكتوبر من العام الماضي، على مئات من النساء الحوامل في منطقتي ليفربول ومانشستر ببريطانيا. حيث ثبت أن المصابات بالصرع تنخفض نسبة الذكاء لدى أطفالهن، إذا ما تلقين علاج