في عام 1562 ظهر كتاب عجيب بعنوان (العبودية المختارة) لشاب عمره 28 سنة هو "أتيين دي لا بواسييه" نشره الفيلسوف الشكاك "مونتانييه" منقوصا على خجل وتخوف، ولم تطبع النسخة الكاملة له إلا بعد 170 سنة، أما في العالم العربي فلم ير النور، أو يترجم إلا بعد مرور 430 عاماً؟ وعندما وقع الكتاب تحت يدي وكان بطبعة ركيكة ظننت بادئ ذي بدء أنه مثل كتاب العبودية لابن تيمية، وكنت في الطائرة إلى كندا، فتصفحته بسرعة فذهلت لمحتواه، وقلت إن كتابا كهذا يجب أن يدرس مثل دراسة الكود الوراثي لفيروس تحت المجهر الإلكتروني، وهكذا عكفت على دراسته جيدا، لأرى عالما مذهلا اكتشفه الرجل. فقد فكك جسم الطغيان، وفهم آلية عمله كما يدرس طلاب الطب الفيزيولوجيا، وعرف كيف يؤثر الطغيان على المجتمع ونفسية الأفراد فيخرج من صلبه عبدة الطاغوت، ليصل في النهاية إلى وضع وصفة الخلاص منه. والكتاب أكثر من مهم، ويجب أن يقرأه كل مواطن عربي حتى يتخلص من السحر الحالي؛ ذلك أن وضع المواطنين العرب يذكر بقصة فرعون والسحرة وماذا فعلوا بالناس (فاسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم).
هذا ما فعله اللبنانيون حين كسروا حاجز الخوف ورفعوا لافتات تقول "تحيا سوريا.. في سوريا". وهي عبارة عفوية ولكنها رائعة. في الفيزياء يوجد شيء اسمه" أثر الفراشة" (Butterfly effect) فيجب ألا نستخف بدبيب نملة أو طنين نحلة. وضرب القرآن مثلا للناس في الذباب والبعوضة، ولو طنت فراشة في منغوليا قد يحدث إعصار في (سان فرانسيسكو)، لأن الكون وعاء واحد، يقوم على سلاسل سببية لا نهائية، من عناصر شتى تتبادل التأثير. وأخطأ حسن نصر الله أمين عام حزب الله كثيرا حين قال: "نحن في لبنان، لسنا جورجيا أو أوكرانيا". ومن قبل ظن اليهود والنصارى أنهم استثناء على القانون الإلهي "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق؟". وكان الطاغية (تشاوتشيسكو) في طهران قبل موته بأربعة أيام، فسئل عن الرياح التي تعصف بأنظمة أوروبا الشرقية؟ قال: هذا صحيح ولكن رومانيا شيء مختلف، وحين تثمر شجرة الصفصاف كمثرى فيمكن حينها أن يتغير النظام عندنا، وبعد أربعة أيام كان يحاكم وزوجته فيعدمان ولا يعرف لهما قبر، ويوم القيامة هم من المقبوحين. ويبدو أن كل طاغية ينتابه نفس الشعور بأنه خارج القانون الإلهي. وفرعون من قبل رأى تسع آيات بينات فلم تنفعه شيئاً حتى إذا أدركه الغرق آمن "الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين... فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية"؟ وجثة رمسيس التي فحصها (موريس بوكاي) ليكتشف فيها ملح البحر هي التي دفعته للإيمان في الوقت الذي كفر فرعون وهو يعاين الآيات جهارا. والنظام السوري الآن يظن نفسه أنه استثناء على قانون التاريخ، وكان عليه أن يتعظ من درس العراق ولبنان بدل إدخال مواطنيه المعتقلات لأنهم فتحوا صفحة في الإنترنت. وإعصار تسونامي ابتلع شواطئ عشر دول فلم يكتف بسومطرة. والزلزال العراقي قذف باللافا في بغداد، وتشققت الأرض في دمشق، واهتز لبنان.
والفرق بين النموذج العراقي واللبناني أن الأول رسم بريشة نصلها صاروخ ومدادها دم، والثاني تحقق بإرادة جماهيرية بدون طلقة واحدة، وهذا يحكي طبيعة الشعبين في كيفية حل مشاكلهما. وإذا كان الشعب اللبناني قد تعلم من الحرب الأهلية، فإن العراقيين لم يستفيدوا من حمامات الدم في كل حروب صدام. وفي مجلة الشبيجل الألمانية (العدد 10 2005 ص 140 ـ 145) تحدث دبلوماسي غربي في بيروت عن تغير "النماذج الإرشادية" Paradigm-change كما تحدثوا عن انقلاب هائل (Umbruch) في الشرق العربي تحت نظرية "الدومينو Dominotheory من خلال موجات من العصيان المدني في سحب تتجمع في سماء الشرق الأوسط بأشد من الغمام في موسم المونسون.