في أحد مستشفيات قرية "سومجي" الصغيرة في نيجيريا تفاجأ الأطباء بأن المريضة "سولومون" قد عمدت إلى وضع "ناموسية" زرقاء اللون فوق سريرها الذي تستلقي عليه مع وليدها "جيمس" الذي بلغ العام الثاني من عمره. وهذه الناموسيات لا تنطوي على أي نوع من التعقيد متى ما توفرت الوسائل التي يمكن أن تعلق عليها من مسامير أو أخشاب، إلا أن من النادر اللجوء إلى رش هذه الناموسيات بمواد مضادة للحشرات. وتحت ظل إحدى شجرات التبلدي في منتصف القرية وقف أحد فنيي الصحة الحكوميين وهو يحمل زجاجة مملوءة بالماء وأمامه طبق كبير وهو يدرب مجموعة من المواطنين على كيفية مزج نوع من المساحيق الطبية البيضاء من أجل انتاج محلول تغمر فيه الناموسية قبل نشرها تحت الشمس لكي تجف، وهو يقول لهم "تذكروا أن تغسلوا الطبق جيداً قبل استخدامه في تقديم الأطعمة، وإذا نسيتم هذا الأمر فلن تحدث كارثة لأن المحلول الذي نستعمله يفتك بالحشرات ولا يلحق اضراراً جسيمة بالأطفال".
وعلى الرغم من البساطة التي تتميز بها الناموسيات من الناحية الفنية في الريف الأفريقي، فإنها أصبحت، على ما يبدو، أحد الرموز والأهداف السياسية المهمة. ويبدو أن قرية "سومجي" التي تتألف من مجموعة من المنازل الطينية الصغيرة وسط حقول نباتات السرغوم والدفن الممتدة في سهول نيجيريا الوسطى التي تتخللها أجواء شديدة الحرارة والجفاف، قد أصبحت تمثل أحد المختبرات الخاصة بالأسلحة والتكتيكات ضمن السياسة العالمية الهادفة لتوفير الناموسيات.
ويقول الطبيب "ايمانويل ميري" رئيس قسم العمليات النيجيرية في مركز كارتر في اتلانتا: "هذه أول مرة في تاريخ الدولة نعتمد فيها سياسة توزيع الأدوية مع ناموسيات الأسرة". وهذه الأدوية تختص بمعالجة مرض الخيطيات اللمفاوية الذي تسببه حشرات يبلغ طول الواحدة منها ثماني بوصات وهي تبيض وتعيش داخل الغدة اللمفاوية وتلحق بها أضراراً جسيمة قبل أن تبدأ ساق الضحية في التورم وتصبح أشبه بساق الفيل. وإلى الآن لا يوجد علاج للساق أو دواء يؤدي إلى موت الحشرة، إلا أن هذه الأدوية التي يتم اعطاؤها لكل فرد في القرية مرة واحدة في كل عام تؤدي فقط إلى قتل صغار الحشرة داخل الدورة الدموية، وهي أدوية من نوع "ميكتيزان" و"البندازول" التي تتبرع بها شركات الأدوية. ولا ينتهي هذا الالتهاب إلا بعد أن تبلغ الحشرة الكبيرة أرذل العمر بعد حوالى خمس سنوات، ولكن من أهم عيوب هذا الدواء أنه لا يمكن اعطاؤه للأطفال دون سن الخامسة أو للنساء الحوامل. ومن الطبيعي أن تمضي هذه الشريحة من السكان وهي تفتقد إلى الوقاية وتأمل فقط في الاعتماد على الحظ أو اللجوء إلى استخدام الناموسية.
ولكن النسوة الحوامل والأطفال ما دون سن الخامسة معرضون أيضا للوفاة بسبب الملاريا وهو المرض الذي تتسبب في نشره الحشرات مثله مثل مرض الخيطيات اللمفاوية. وتشير المريضة "سولومون" إلى أن ابنها "جيمس" قد أصيب بالملاريا في إحدى المرات، وعندما سألناها عن الدواء الذي اعطته له جاءت لنا بزجاجة لم نستطع قراءة العلامة التجارية الملصقة على سطحها وتبين لنا انها تحتوي على نوع محلي من عقار "التايلينول" مما يعني أن جيمس قد صادفه الحظ فقط في النجاة من هذا المرض الفتاك.
ومن ناحية أخرى فإن مركز "كارتر" وهو عبارة عن مؤسسة تعنى بشؤون السلام والصحة كان قد أسسه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ظل يوفر الأدوية المضادة للحشرات والديدان في نيجيريا منذ أوائل الثمانينيات، ولكن هذا المركز ليست لديه ميزانية مخصصة للناموسيات إلا أن "حملة رول باك ملاريا" التي اطلقتها منظمة الصحة العالمية في عام 1998 تمكنت من تخصيص هذه الميزانية بسبب الاهتمام الزائد بالملاريا في تلك الفترة وبفضل انشاء الصندوق العالمي لمكافحة أمراض الايدز والسل والملاريا، لذا فقد أصبحت قرية "سومجي" الآن تتمتع بمزايا البرنامجين معاً مما يعني أن كل عائلة باتت تحصل إما على أدوية "كارتر" أو ناموسيات منظمة الصحة العالمية. ولكن العملية أصبحت تشهد العديد من المعوقات البيروقراطية، فقد درجت منظمة الصحة العالمية على إرسال تبرعاتها عبر الحكومة الاتحادية النيجيرية التي توزع هذه الناموسيات إلى الحكومات المحلية والتي تقوم بدورها بإرسالها مع فنيي التدريب إلى الأهالي. ولكن في أكبر ولايتين في وسط نيجيريا هنالك ثلاثة ملايين فرد فقط استطاعوا الحصول على الأدوية ولم يستلموا سوى 60.000 ناموسية فقط "علما بأن نيجيريا يؤمها 100 مليون نسمة وليس لديها برنامج صحي وطني".
إذن ما الذي سوف يحدث عندما تنفد هذه المساعدات؟ تقول "راشيل تيتي بطرس" المسؤولة عن قسم التدريب على الناموسيات في وزارة الصحة النيجيرية "هذا هو الأمر الذي يجعلنا نتوسل جميع الدول لمساعدتنا. إننا ندعو الله في كل وقت أن تأتينا المزيد من المساعدات". على أن الناموسيات ظلت تباع أيضاً على أرصفة الشوارع في الأسواق الكبيرة، إلا أن هذه الأسواق تقع على بعد مسافات طويلة من هذه القرية، بينما تبلغ تكلفة الناموسية ا