قبل سنتين كتب عالم المستقبليات المشهور يوفال هراري متهكماً، أن دقيق السكر الأبيض أصبح أكثر فتكاً وخطراً من دقيق البارود، مستنداً إلى إحصائية تفيد أنه في عام 2012 مات في العالم كله 520 مليون شخص لا يزيد ضحايا العنف البشري (من حروب وجرائم) منهم على 120 ألف، فيما كان ضحايا مرض السكري وحده مليوناً ونصف المليون فرد. لقد اعتبر هراري أن التحدي الأكبر الذي سيواجه البشرية مستقبلاً، ليس الحروب والمجاعات، وإنما اختفاء نظام الشغل الذي عرفته البشرية منذ اكتشاف الملكية الفردية، متسائلاً: كيف سيمضي الإنسان وقت فراغه الطويل بعد أن تخلص من الحاجة إلى العمل بفضل الذكاء الاصطناعي، وما سيخلقه من فرص واسعة للثروة والغنى؟
كانت هذه الملاحظات بطبيعة الحال قبل أزمة فيروس كورونا المستجد الراهنة، التي حولت الأغلبية المطلقة من البشر إلى الفراغ الاضطراري داخل بيوتهم، وأدت (حسب إجماع الاقتصاديين) إلى أزمة مالية ومعيشية غير مسبوقة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ومن شأنها أن تضاعف بأرقام فلكية نسب البطالة والفقر في العالم.
ويمكن القول إن هذه الأزمة ستكون مؤقتة، وسيتجاوزها العالم بعد التغلب على الوباء الحالي بمخلفاته المباشرة، لكن من المؤكد أن من نتائجها الثابتة دحض أدبيات العولمة المتخيلة التي تزايدت كثيراً في السنوات الأخيرة، مبشّرةً بالعصر الرقمي الجديد الذي سيحقق أبعد مطامح الإنسان في الغنى والقوة، بل و«الخلود»!
ومن يرجع لكتب التاريخ يعرف أن كل الثورات الصناعية والتقنية الكبرى ولدت مثل هذه الطوبائيات، منذ الثورة العلمية الأولى الحديثة التي كان ديكارت يعتبر أنها ستضمن سيادة الإنسان على الطبيعة لتحقيق أهم حلمين للبشرية: المعرفة اليقينية الجماعية، والرفاهية المطلقة.
لكن مما لا شك فيه أن مفهوم العمل بسياقاته ونظمه قد تغير جوهرياً، ليس كأثر ظرفي مؤقت لأزمة كورونا الحالية التي فرضت إغلاق المصانع والمكاتب وحكمت على الناس بالمكث في البيوت، وإنما كشفت هذه الأزمة عن اتجاهات بارزة في طبيعة الثورة الصناعية الجديدة وأنماط تأثيرها على الحركية الاجتماعية.
وتبين تقارير المؤسسات الدولية أنه ستختفي 65% من الوظائف الحالية قبل منتصف القرن، وأن النظام التربوي الحالي مقطوع الصلة بسوق العمل القادمة التي سيطبعها الذكاء الاصطناعي. بيد أن ما كشفت عنه أزمة كورونا، هو أن نظام العمل عن بُعد عن طريق المكاتب الافتراضية ووسائل التواصل الرقمي، سيكون محور نسق الشغل في المدى القريب.
ما يتعين التنبيه إليه هنا، هو العلاقة العضوية بين العمل عن بعد وظاهرتين بارزتين في أيام الحجر الشامل الحالية: ظاهرة الرقابة الرقمية الجماعية للسكان التي لجأت إليها النظم الليبرالية والنظم التسلطية معاً، وظاهرة «التباعد الاجتماعي» التي هي حجر الزاوية في سياسات الصحة العمومية لمواجهة الوباء المنتشر.
كان هيغل وماركس اللذان عاصرا أوج العصر الصناعي الأول، يركزان على الجانب الاجتماعي في الشغل، من حيث هو ظاهرة اجتماعية كلية، لا تنحصر في البعد التحويلي للطبيعة، وإنما تشمل كل دوائر الوساطة والتأليف بين الأفراد، بحيث تحول العمل إلى مرتكز العلاقات الاجتماعية في العصور الحديثة، رغم ملاحظة ماركس الثاقبة حول التناقض بين الجانب المجرد في الشغل الذي يتعلق بإطار التفاعل الاجتماعي، والجانب العملي المتعلق بإنتاج الثروة وتحديد قيمتها. سواء اعتبرنا العمل الأداة المثلى لتحرير الإنسان ودفع حريته وتوطيد التضامن بين البشر (الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية) أو نظرنا إليه من زاوية الاستغلال والغبن والصراع الطبقي (الأطروحة الماركسية)، يظل الشغل محور النظام الاجتماعي قبل الثورة الرقمية الراهنة.
ما لا ينتبه إليه الكثيرون هو أن أهم سمة جديدة في هذه الثورة الرقمية، هي الانتقال من مفهوم العمل المادي القائم على الإنتاج الصلب، إلى مفهوم العمل غير المادي القائم على الذكاء الاصطناعي الذي يصنع منتجات رمزية من معارف ومعلومات ومشاعر، بحيث يتماهى مع الطبيعة الشبكية الترابطية للمجتمع نفسه، مقابل نظام العمل التقليدي الذي يقيم خطوط تمايز واضحة بين الحقول الاجتماعية المختلفة.
إن الصعوبة الكبرى التي تعاني منها بلدان العالم، هي حسم هذه المعادلة الانتقالية بين اقتصاد العمل المادي بنظمه الإدارية والتسييرية، واقتصاد العمل الجديد في مفهومه الجديد للثروة والتبادل وعلاقات الشغل، بما ينعكس في الصراع السياسي بين النزعات الشعبوية المدافعة عن النظام الاجتماعي القديم، والأيديولوجيات الطوبائية المبشرة بـ«العولمة السعيدة».
ما تبينه أزمة كورونا الحالية هو ضرورة النقاش المعمق لهذه الإشكالية غير المسبوقة، بعد أن انكشفت حدود السياسات العمومية للدول الليبرالية التقليدية، في الوقت الذي تبينت الحاجة إلى بناء المؤسسات التي يقتضيها ضبط الفرص والمخاطر المترتبة على النظام الاقتصادي التقني الجديد.
*أكاديمي موريتاني