تحتل الدول الأوروبية التي يحب العرب زيارتها، مراكز متقدمة في قائمة البلدان التي استطاع فيروس كورونا المستجد أن يحقق أوسع انتشار فيها، سجلت إيطاليا التي شهدت بعض كياناتها البدايات الأولى للنهضة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، معدلات قياسية في انتشار هذا الفيروس «المُميت» وعدد ضحاياه، وفرنسا التي كانت أهم مركز لتنوير أخرج العالم من ظلمات العصور الوسطى، تكافح لكي لا يخرج فيها الوضع عن السيطرة مثل إيطاليا، وكذلك الحال بالنسبة لإسبانيا.
وتفيد البيانات الخاصة بالسياحة العربية في أوروبا عامي 2018 و2019، أن هذه الدول الثلاث، إلى جانب بريطانيا وسويسرا، استقبلت أكبر عدد من السائحين العرب الذين ذهبوا إلى أوروبا، كما أنها تُعد الوجهة الأولى في أوروبا للسائحين من مختلف بلدان العالم، كانت فرنسا في المرتبة الأولى عام 2019، إذ زارها أكثر من 90 مليون سائح، تلتلها إسبانيا (82 مليون سائح)، ثم إيطاليا (69 مليون سائح).
وتسابق هذه الدول الزمن الآن، لإنقاذ مواطنيها من خطر داهم العالم على حين غرة، وفرض اتخاذ إجراءات مشددة للحد من آثاره، وفى مقدمتها بقاء الناس في بيوتهم طواعية أو بحكم القانون، بعد ثبوت أن الاختلاط هو العامل الأول في انتشار الفيروس القاتل.
وباء تحوّل إلى جائحة، وقلب حياة الناس في هذه الدول وغيرها رأساً على عقب، فصارت مدنها التي يتسابق السائحون لزيارتها مقفرة، مدن عريقة كان الازدحام الشديد والصخب المستمر الذي يصاحبه إحدى مشاكلها الأساسية، وهي الآن تبدو كأنها مأوى للأشباح، من كان باستطاعته أن يتخيل قبل بضع أسابيع أن باريس (مدينة النور)، سيُطبق عليها الظلام في عز النهار، وتُطفأ أنوار محلاتها التجارية وشركاتها ومصارفها ومقاهيها؟ ومن كان بإمكانه أن يتصور أن شوارعها العريقة، التى يحمل كل منها رائحة إحدى فترات العصر الحديث، ويقصدها الناس من كل مكان، ستصبح مهجورة؟
كان سكان بعض هذه الشوارع يشعرون بالضيق لكثرة أعداد الزوار كل يوم، إلى حد أن بعضهم طالب بإقامة بوابات لتنظيم عبورهم، عندما يصل عددهم إلى المستوى الذي لا يمكنهم تحمله، هؤلاء السكان يلزمون الآن منازلهم، ولا يستطيعون الخروج إلا للضرورة.
وهذه هي حال مدن أوروبية أخرى، لم تكن أقل حيوية ونشاطاً وازدحاماً من باريس، أوقفت الأنشطة التي كانت قد بدأت في بون وبرلين وفيينا، بمناسبة مئوية الموسيقار العبقري بيتهوفن، وليس حال روما ومدريد ولندن ومعظم المدن الأوروبية، أفضل من باريس وبرلين وبون وفيينا في زمن كورونا.
ومما يُحزن هواة زيارة باريس، أوضاع المقاهي التي يرتادونها هناك، مقاه كانت تكتظ بروادها صباحاً، وظهراً، ووقت الغذاء، ومساءً قبل العشاء وبعده، فيبدو مشهدها مبهجاً ومثيراً للتأمل في آن معاً، لكن بها مقاه توصف بأنها «ثقافية»، لأن مثقفين كباراً وناشئين يرتادونها ويلتقون فيها، ويتداولون حول أعمال إبداعية جديدة، أو يناقشون كتباً فكرية أو سياسية أو روايات، أصبحت هذه المقاهي الآن أطلالاً خالية من البشر، بعد أن كانت تفيض حيوية.
وأكثر ما يثير الأسى في هذا الوضع، حال مقاهي ذات تاريخ، عُرف بعضها بتردد مثقفين مرموقين عليها لفترات طويلة، مثل مقهى «لي دوماجو» في شارع سان جرمان، الذي كان مفضلاً لدى الفيلسوف الراحل جان بول سارتر، ونخبة من كبار المثقفين الذين أثروا المعرفة في العالم، ورغم تعدد الروايات في هذا المجال، تفيد رواية راجحة أن سارتر أحب أيضاً مقهى فلور القريب من مقهى لي دوماجو، وأمضى فيه أوقاتاً غير قصيرة.
وقيل إن سارتر كتب الكتاب التأسيسي للفلسفة الوجودية «الوجود والعدم»، الصادر عام 1943، في مقهى لي دوماجو، وقد بلور هذا الكتاب الفكرة المحورية في الوجودية، وهي أن وجود المرء يسبق اكتسابه ماهيته التي ترتبط بمستوى وعيه، وقد نقله إلى العربية الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي.
ولا يختلف حال هذا المقهى اليوم عن مقاه عدة، حفلت بنقاشات ثقافية عميقة، وكُتبت فيها أعمال كبيرة، تُذكِّر بعصر ازدهار الحياة الفكرية في فرنسا.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية