في هذه المرحلة التي يجمِع فيها علماء الاقتصاد والمالية، على أن العالم متجه إلى أزمة اقتصادية غبر مسبوقة منذ أزمة 1929، بدأ بعض المفكرين الاقتصاديين طرح نموذج جديد للتنمية، يرسي قطيعة مع نموذج النمو الذي أطّر الأدبيات الاقتصادية، خلال السبعين سنة الأخيرة.
وإذا كان هذا الاتجاه ظهر منذ سنوات مع فكرة التنمية الإنسانية الشاملة، التي اعتمدها صندوق الأمم المتحدة الإنمائي، بإدماج الأبعاد الثقافية والاجتماعية في صلب العملية التنموية، فإن الجديد في الأمر هو ما برز خلال الوضع الصحي العالمي الراهن من ضرورات تدخل الدولة المركزية بصفة كلية للتحكم في الحركة الاقتصادية، من مستوياتها الدنيا المتعلقة بتوفير الحاجات الأساسية للسكان إلى مستوياتها العليا المتعلقة، بإنقاذ القطاعات الخاصة المهدَّدة بالانهيار التام.
وفي هذا السياق، تبنى الكثير من الخبراء والمفكرين الاقتصاديين مفهوم «كبح النمو» decreasing، الذي يعني التركيز على أبعاد التوزيع العادل، والاستغلال النوعي للثروة والتناغم مع الطبيعة.. مقابل أبعاد النمو الكمي، ومضاعفة الثروة والتطور التقني غير المحدود.
الخلفية الحالية التي تصدر عنها هذه المقاربة، هي ما بيّنه العديد من خبراء الأمراض المعدية، من علاقة مباشرة بين الموجات الفيروسية الجديدة والاختلالات الخطيرة، التي مست التوازنات البيئية في السنوات الأخيرة، نتيجة للخيارات والسياسات الاقتصادية والتنموية التي اعتمدها جل دول العالم.
وفي هذا السياق، كتب الفيلسوف الكوري الجنوبي المقيم في ألمانيا، «بيونج تشول هان»، في مقالة هامة بصحيفة «الباييس» الإسبانية، أن المأزق الذي واجه المجتمعات المعولمة الليبرالية، هو أنها فقدت قوتها المناعية إزاء المخاطر الخارجية، أي الإحساس بالخطر المتأتي من خارجها، ومن ثم فقدت تجربة السلب التي تستند إليها كل استراتيجية للمواجهة والحرب، ورغم أن زعماء الدول الكبرى استخدموا مصطلحات قريبة من العبارات، التي استخدمها قادة الحرب العالمية الثانية (ديغول وتشرشل وروزفلت..) في التعبير عن مواجهة فيروس كورونا المستجد، فإنهم في الواقع ظهروا غير مهيئين للتعامل مع «العدو» الجديد ولو كان فيروساً غير مرئي، يفتك بالأرواح ويشل المجتمعات والدول.
صحيح أن الدول الآسيوية (ليبرالية أو تسلطية) أظهرت قدرةً عملية على مواجهة الأزمة الصحية الحالية، من خلال الضبط الرقمي والرقابة الشاملة، بالرجوع إلى تقاليدها الثقافية القائمة على الروح الجماعية والانضباط مقابل الفردية الغربية، إلا أن نموذج الحجر الجماعي والعزل الكلي الذي لجأت إليه جل الدول الغربية، يطرح تحديات معقدة على مجتمعات الشفافية والتشابك، التي تعيش مفارقة الانكفاء الموغل في الفردية الحميمية ضمن معادلة التداخل الأفقي الأقصى، إنها الوضعية التي وصفها ادغار مورين بعبارة «الترابط دون تضامن».
ومن هنا صعوبة العزلة في مثل هذه المجتمعات، التي وضعت محور الرفاهية الشخصية في منظومتها القيمية، أي مثال الاكتمال والتشبع الذي تحدث عنه مفكر الليبرالية آدم سميث، لا بد من التمييز هنا بين العزلة والفردية، لأن الفردية تعني الفاعلية والنجاعة والاستخدام اللامحدود لموارد القوة والثروة، بما يقتضي استقلالية الإنسان وحرية إرادته مقابل السلط الجماعية، أما العزلة فهي نمط من السلوك الزهدي والنأي الإرادي والعزوف الطوعي، الذي يترجم علاقة مغايرة بالطبيعة والقوة والثروة.
لقد قال مرة الفيلسوف الفرنسي «جان ليك ماريون»: إن ذات ديكارت لم تكن في أي من مراحل الشك والتفكير معزولة كما أوهم قراءه، ما دام مسار التأمل الذاتي يتردد بين الشيطان المخادع والإله الضامن.. ومعنى هذه الملاحظة هو أن الفردية الذاتية لا يمكن فهمها إلا ضمن الحدث الفكري المرتبط بها والمتزامن معها، أي مفهوم المجتمع من حيث هو كتلة من أفراد متماثلين متساوين، لا يحققون حريتهم إلا بالعمل الإنتاجي في مقابل العمل التأملي الذي هو شغل الحكيم المعتزل.
الفرد المنتج الحر له معمله ومكتبه، لكن لا وطن له بمعنى حقل الانتماء الأصلي العميق (بلغة هايدغر)، لذا كان لا بد لليبرالية المعولمة أن تعيد قولبة المكان فتحوله إلى مواضيع هندسية وتقنية قبل أن تقضي على مفهوم المكان نفسه، في ظل الثورة الافتراضية الرقمية الراهنة.
أما الحكيم المعتزل فهو المرتبط بالأرض والوطن، وبالتالي فهو في عزلته في صلة أوسع وأعمق بالأشياء والطبيعة.. وبذلك فهو أقدر على الإنصات والتواصل في معزله.
وحاصل الأمر، أن ما يعيشه الإنسان المتفرد في المجتمعات الليبرالية المغلقة هذه الأيام ليس تجربة العزلة، بل تجربة الإغلاق والحجر التي هي الوجه الآخر للعولمة الاتصالية الافتراضية.
*أكاديمي موريتاني