ينبهنا «جاك أتالي» أن كل وباء كبير عرفته البشرية خلال الألف سنة الأخيرة، أفضى إلى تغيير جذري في نمط التنظيم السياسي للمجتمعات. فالطاعون الأسود الذي عرفته أوروبا في القرن الرابع عشر أدى إلى الحد من سلطة الكنيسة في الشأن السياسي، كما أنجرت عنه نشأة نظام الشرطة كوسيلة ناجعة لحماية وضبط حياة الناس، فأخذ الشرطي مكان الكاهن، قبل أن يأخذ الطبيب، منذ القرن الثامن عشر، محل الشرطي.
ما يخلص إليه أتالي هو أن وباء الكورونا المستجد، الذي يعرفه العالم اليوم بفظاعة، قد يفضي إلى نموذج جديد من السلطة ومنظومة قيم جديدة. التحدي الكبير المطروح اليوم، كما يراه، يتعلق بمستقبل نسق السلطة المؤسس على حماية الحقوق الفردية بمرتكزيه المحوريين، اللذين هما الديمقراطية التمثيلية التعددية والسوق الحرة.
وفي بداية الأزمة الصحية الراهنة، ظهرت في الصحف الغربية عدة تحليلات، شككت في قدرة الصين على مجابهة الوباء المنتشر نتيجة لغياب الشفافية المتبعة في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة، وقد برز من الجلي اليوم، أن عموم الدول الغربية اعتمدت نفس المسلك الصيني في الحجر الكلي والرقابة الشاملة.
ومن هنا التساؤل المشروع عن إمكانية استمرارية هذه الإجراءات المقيِّدة لحركة وحرية السكان بعد نهاية الأزمة، ولو في حدود وصياغات مغايرة؟ وهل سيستمر خط الرجوع القوي للدولة المركزية التي انتكست اليوم إلى دورها الأصلي، أي إعالة السكان وتوزيع الغذاء عليهم، ولو على حساب قوانين الحركية الاقتصادية المعولمة؟
ويرى أتالي أن مستقبل النظام السياسي في العالم سيتمحور حول نموذجين متمايزين: نموذج الرقابة والتحكم الكلي بالاستناد إلى الذكاء الاصطناعي والرقابة التكنولوجية الناجعة، وهو النموذج الصيني الذي ثبت تفوقه في معالجة أزمة كورونا، ونموذج تضامني تقوم فيه الشرعية على التكافل والتعاضد وتوفير الخدمات الأساسية للسكان، ويرتكز فيه النشاط الاقتصادي على أركان أربعة هي: الصحة والغذاء والتعليم والبيئة.
هل يكون النموذج الاقتصادي الكمي، الذي اقتحم منذ العصور الحديثة، مفهوم السياسة من حيث هي تدبير لعالم إنساني مشترك، هو الذي دخل في طور التأزم والانحسار؟
المعلوم أن هذا النموذج قام على محددات ثلاث أساسية هي: التطبيق الرياضي على الظواهر الطبيعية الذي هو أساس ما أطلق عليه هايدغر الرؤية التقنية للعالم، وبناء الفاعلية التبادلية بين البشر على الرغبات الاستهلاكية غير المحدودة، بدل الحاجيات الأساسية الضرورية، ومحو الحاجز الدلالي والمعياري بين الثروات المادية والخيرات البشرية التي لا تخضع لمنطق المنافسة والنجاعة والتبادل. وإذا كان العديد من الاقتصاديين والفلاسفة الاجتماعيين قد نبّهوا منذ القرن الـ19 إلى خطورة هذا النموذج بخصوص اعتبارات العدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية الجوهرية، فإن الجدل اشتد في السنوات الأخيرة، إثر عجز الحكومات العالمية عن التعامل مع أزمات ثلاث متداخلة ومتزامنة هي: الأزمة المالية التي كادت تعصف بالاقتصاد العالمي عام 2008، والأزمة الصحية الناتجة عن الموجات الفيروسية الجديدة، والأزمة الإيكولوجية الناتجة عن سوء استخدام الموارد الطبيعية وتأثير النمط الاستهلاكي التقني على البيئة الطبيعية.
ما تلتقي فيه الأزمات الثلاث هو اعتباران أساسيان، هما من جهة ما دعاه الفيلسوف «آلان باديو» بالصنمية التقنية؛ أي تحويل التقنية إلى مقدس يُسند له تدبير العالم، دون توجيه أو تدخل، طلباً للنجاعة، ومن جهة أخرى إخضاع نظم التدبير السياسي والاجتماعي لمنطق التسيير الاقتصادي والمالي، الذي هو في نهاية المطاف امتداد للمقاربة التقنية الأداتية.
والسؤال الذي يتعين طرحه في هذا السياق يتصل بأثر هذا الجدل في ساحتنا العربية، حيث قرابة ثلث دول المنطقة تعيش مصاعب الحروب الأهلية وتفكك الكيان المركزي للدولة، وثلث آخر يعيش مصاعب الفقر وهشاشة البنيات التنموية، ويبدو غير قادر لوحده على امتصاص صدمة كورونا، خصوصاً في البلدان التي تعتمد اقتصاد السياحة والخدمات التي توقفت مع الوباء الحالي، أما الثلث الآخر فهو البلدان الأكثر تحصيناً والتي تأتت لها الوفرة المالية، واستطاعت بناء سياسات اجتماعية ناجعة.
المطلوب، اليوم، هو التفكير الجدي المعمق في السياسات العامة للدولة، من حيث نظام الحكامة السياسي والخيارات الاقتصادية والتنموية والسياسات الاجتماعية، لمواكبة تحولات كبرى سيشهدها العالم في المدى القريب.
كما أنه من الملح العاجل توطيد سياسات التضامن العربي وإعادة بنائها على أسس جديدة صلبة، وعدم ترك بلدان ومجتمعات للتحلل والتفكك بحيث تكون مرتعاً لدعاة الفتنة والإرهاب وأطماع القوى الأجنبية.
ونختم بدعاء كشف الغمة والضر ورجوع السكينة والطمأنينة.
*أكاديمي موريتاني