استخدم زعماء الدول الكبرى، ترامب وماكرون وانجيلا ميركل، عبارة «الحرب» للحديث عن مواجهة وباء كورونا، بل إن إحدى الصحف الصينية تحدثت عن سيناريو «الحرب العالمية الثالثة» في وصف الإجراءات التي اعتمدتها جل دول العالم لمحاربة الفيروس الفتاك.
المشهد فعلاً يوحي بحرب حقيقية: مدن مغلقة، وشوارع فارغة، وإعلان حال الطوارئ، وجيوش مدججة بالسلاح في الواجهة.
المشكل ليس في طبيعة العدو، إلى حد أن الفيلسوف الإيطالي جورجيو اغامبن تحدث عن «حرب أهلية» ما دام العدو في الداخل، ينفذ من راحة اليد وريق الفم وليس من الخارج. لقد تحول الهدف الأقصى للدول والحكومات إلى إنقاذ حياة الإنسان في وضعها البيولوجي الضيق الأدنى (الحياة العارية حسب عبارة اغامبن)، مع التضحية بكل مكاسب المدنية الحديثة من حقوق سياسية واقتصادية، بما يعني أن الحالة الاستثنائية أصبحت الأفق الطبيعي للسياسات العمومية حتى في الديمقراطيات العريقة.
لأول مرة لا يجد الإنسان كبش فداء من خارجه، كما كان الشأن في أيام الأوبئة السابقة، حين كانت توجه الاتهامات لقوى طبيعية أو شيطانية شريرة أو لمجموعات مشؤومة بعينها، ومن هنا الشعور السائد بالإحباط والجزع واليأس في مواجهة خطر غير معروف وغير مألوف.
ورغم التحذيرات المتتالية للعديد من العلماء والخبراء حول خطر الفيروسات على أمن العالم، خصوصاً بعد موجة جنون البقر وسراس وإيبولا، فقد أصبح من الجلي أن التهديد الرئيسي الذي تواجهه البشرية مستقبلا هو الفيروسات والجراثيم المتجددة التي لا تبدو السياسات الصحية الراهنة مهيأةً لمواجهتها.
وفضلاً عن التكلفة البشرية الباهظة من الأرواح، يتوقع الخبراء الاقتصاديون أن يدخل العالم أخطر أزمة بعد أزمة 1929 الشهيرة، ويقدرون حجم خسائر فيروس كرورونا المستجد بما يزيد على 100 مليار دولار، متركزةً في قطاعات حيوية مثل الطاقة والسياحة والطيران والنشاط المصرفي.
وبرز في الأسابيع الأخيرة نقاش واسع حول تأثير الفيروس الجديد على طبيعة نظام الحكامة السياسية، بين موقفين متمايزين، ذهب أحدهما إلى أن الواقع الراهن فرض عودة المفاهيم السيادية والمركزية للنظام السياسي، بما يعني رجوع الدولة الوطنية الحامية والراعية في مقابل حركية العولمة الكونية.. فيما ذهب الموقف الآخر إلى أن الأزمة الراهنة بيّنت من خلال انتشار الوباء نفسه ومصاعب مواجهته واقع تداخل المصالح والظرفيات العالمية بما يفرض بلورة أدوات تكاملية وتضامنية لتدبير الوضع الإنساني المشترك.
ما نراه هو أن المعادلة الحالية مزدوجة التوجه، إذ بدا من الضروري إعادة الاعتبار للسياسة من حيث هي تدبير عمومي يختلف عن نمط التسيير الاقتصادي والمالي ويقتضي التحكم في المصالح والقطاعات الاستراتيجية الحيوية، بما فيها القطاعات الإنتاجية الأساسية. لكن ظهر في الآن نفسه أنه لم يعد بالإمكان الاستغناء عن وضع سياسات تضامنية عالمية في مواجهة المخاطر المشتركة بين أبناء البشرية.
وفي مقال هام بصحيفة «لوموند» (17 مارس 2020) حول مسار نشأة وتمدد فيروس كورونا المستجد، بيّن الطبيب الفرنسي «جان فرانسوا توسان» أن الأزمة الصحية الراهنة كشفت عن وحدة الإنسانية في ضعفها المتساوي أمام الموجة الفيروسية المهددة، منتهياً إلى «أننا نسير على لوح تتقاذفه الموجات» في بحر هائج، وكل انحراف في السير يترك أثره الفادح على التوازنات الهشة في مجتمعات ضعُفت قدرتُها على استيعاب الهزات المتتالية التي عصفت بأمنها الحيوي.
إن المطروح راهناً أكثر من مجرد تعديل جزئي أو تحوير بسيط في الممارسات السياسية وإجراءات التسيير الاقتصادي والإداري، وإنما بلورة مقاربة جديدة للعلاقة القائمة بين مكونات «الحكومية» gouvernementality (أي نمط تدبير علاقة الأفراد أفقياً وعمودياً) الثلاث التي وضعتها الحداثة: الدولة البيروقراطية المركزية، وحركية التبادل الاقتصادي الحر، والحقوق المدنية الأساسية.
لقد بدا من الجلي أن الصياغتين اللتين بلورتهما من قبل المجتمعات الحديثة عاجزة عن الاستجابة للتحديات الكونية الحالية، وهما الدولة السيادية الليبرالية بمفهومها للمواطنة ومقاربتها القانونية الحقوقية للشرعية، و«الإمبراطورية» المعولمة بما تقوم عليه من معايير السيادة المتقاسمة أو انفصام المجالات الاقتصادية المالية عن الشأن العمومي.
ومن هنا نخلص إلى أن أزمة كورونا ليست مجرد أزمة صحية عابرة بل هي أزمة نظام حضاري ومجتمعي تقتضي تحولات انتروبولوجية عميقة في ما وراء إجراءات المواجهة العاجلة للوباء القاتل. وحاصل الأمر أن عالَم ما بعد كورونا مختلف في سماته وخصائصه والتحديات التي يطرحها، ومن هنا ضرورة الاستعداد لمقاربته وللتعامل معه بعقل جديد ورؤية مستجدة.
*أكاديمي موريتاني