تتصف الأمراض التنفسية المعدية، وخصوصاً فيروس الإنفلونزا بأصنافه الثلاثة، بصفة موسمية، حيث تزداد معدلات العدوى والإصابات، والوفيات الناتجة عنهما، خلال مواسم أو فصول محددة في السنة، وبمقدار عشرة أضعاف أو أكثر، مقارنة بباقي أوقات وفصول السنة، ويقع هذا الموسم خلال الشهور الباردة، تقريباً من أكتوبر إلى مايو في نصف الكرة الشمالي، مع بلوغ ذروته في شهر فبراير، ومن مايو إلى أكتوبر في نصف الكرة الجنوبي، مع بلوغ ذروته في شهر أغسطس، أما في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، فلا يمكن تحديد مواعيد وفترات أوبئة الإنفلونزا الموسمية بنفس الدقة، وإن كانت تشهد هذه الأوبئة ذروتها خلال فصلي الشتاء وبداية الربيع، وتستغرق الأوبئة الموسمية للإنفلونزا 3 أسابيع حتى تصل إلى أقصاها، ثم ثلاثة أسابيع أخرى حتى تتراجع وتتلاشى لحد كبير، وإن كان هذا لا يعني أن الفيروس ليس موجوداً باقي أيام وفصول السنة، وقد يتسبب في أوبئة محدودة، ولكن بمعدل انتشار أقل بشكل ملحوظ.
وليس من الواضح أو المفهوم حتى الآن، لماذا تتبع فيروسات الإنفلونزا هذا النمط الفصلي، وإن كان الأطباء والعلماء يطرحون عدة أسباب، قد يرد تفسير هذه الظاهرة إلى سبب واحد منها أو إلى أكثر من سبب، تتضافر معاً في نفس الوقت، من هذه الأسباب، حقيقة أن أفراد المجتمع البشري خلال الفصول الباردة، يميلون لقضاء معظم وقتهم داخل أماكن مغلقة مدفئة، منخفضة التهوية، سواء في المسكن أو مكان العمل، مما يجعلهم متقاربين على وجه أوضح، ويسهل انتقال العدوى من شخص إلى آخر، السبب الثاني ربما يكون أن الفصول الباردة تتصف بتراجع كمية الأشعة فوق البنفسجية الموجودة في أشعة الشمس، والتي تختفي غالباً خلف السحب، مما يقلل من فرصة قتل الفيروس بهذا النوع من الأشعة، والمعروف عنها تدمير المادة الوراثية للفيروس والقضاء عليه، بشكل مباشر أو غير مباشر.
السبب الثالث في رأي البعض، أن انخفاض درجة الحرارة خلال الفصول الباردة، يؤدي إلى انخفاض مماثل في الرطوبة في الهواء وفي جفافه، وهو ما يؤدي بدوره إلى جفاف الأغشية المخاطية في الأنف والعينين، والتي تعتبر خطوط الدفاع الأولى في جهاز المناعة، مما يضعف من كفاءتها في مقاومة غزو الميكروبات والفيروسات التي تسبب الأمراض التنفسية، هذا بالإضافة إلى أن درجة الحرارة المنخفضة تساعد الفيروسات على البقاء والحياة لفترة أطول، وخصوصاً على الأسطح الصلبة الجافة، مثل مقابض الأبواب وسطح الطاولات، وتظهر الأبحاث التي أجريت على فئران التجارب، أن الهواء البارد والجاف يساعد على انتقال الفيروس مع الرذاذ الناتج عن الأشخاص المرضى، بينما تتلف وتتحلل جزيئات الفيروس بشكل أكبر في الهواء الرطب.
وفي ظل حقيقة أن أوبئة الإنفلونزا الموسمية، تبدأ بشكل أكبر وأعلى حدة في الدول التي يبدأ فيها العام الدراسي مع بداية الخريف، يرى آخرون أن البيئة المدرسية، وما تتصف به من تجمع أعداد كبيرة من الطلاب في فصول وساحات ضيقة، يمكن أن يكون هو السبب في انتشار الفيروس خلال هذه الفترة من العام، حيث يعتبر التزاحم والتقارب في أماكن محدودة المساحة من العوامل، التي تسهل انتشار وانتقال الفيروس من شخص إلى آخر.
ومؤخراً، أصبحت أصابع الاتهام تشير إلى نقص في فيتامين (D)، الذي يزداد حدة خلال الفصول الباردة، فالجسم البشري لا يمكنه إنتاج هذا الفيتامين ذاتياً، ويعتبر تعرض الجلد لأشعة الشمس، وبالتحديد الأشعة فوق البنفسجية (B)، هو المصدر الأساسي والأهم لتزويد الجسم باحتياجاته من هذا الفيتامين الحيوي، ويلعب هذا الفيتامين دوراً في الحفاظ على حيوية وفعالية جهاز المناعة، وعلى قدرته على مكافحة الميكروبات والفيروسات، بما في ذلك فيروسات الأمراض التنفسية المعدية، خلال الفصول الباردة وباقي فصول السنة.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية والطبية.