«حالما نُخلف بيئة المدينة وراءنا نواجه الجِدّة، والمغايَرة، ونلتقط دلائل تفكير جديد، وطرقاً جديدة للتخطيط والاستكشاف والتملك والترحيب، وهي الطرق التي تجعل الريف مأهولاً». كتب ذلك المعماري العالمي «ريم كولهاس» في دليل معرض «الريف المستقبل» بمتحف «غوغنهايم» في نيويورك، والذي يستمر حتى 18 أغسطس. ويُركز المعرض على واقعة احتلال الريف 98? من سطح الكرة الأرضية، لكن نصف سكان العالم يعيشون في المدن. وينعي «كولهاس» المدن التي كانت تُبنى لمواطنيها، وأصبحت مشاريع استثمارية لا تُعنى إلا بالأرباح. ويجد في الصين أكثر البلدان رعاية للريف، ليس داخل حدودها فحسب، بل عبر العالم حيث يمتد مشروعها «الحزام والطريق» الذي خصصت له تريليون دولار.
ويُعتبرُ «كولهاس» من أشهر المعماريين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بعمران أبرز المدن في العالم، حيث كل عمارة شيّدها بيان معماري، من «المكتبة العامة» المدهشةُ التصميم في سياتل بالولايات المتحدة إلى «بنك روتشيلد» في لندن، و«متحف سامسونغ للفن» في سيؤول (عاصمة كوريا الجنوبية)، ومقر التلفزيون المركزي في بكين (الذي يشق تصميمه الشاهق الفضاء).. تمثل دعوةً عالمية للانفتاح و«الحكي على المكشوف». أليست هذه دعوى كل جهاز إعلامي في العالم، حتى ولو كان الأكثر تكتماً؟
و«كولهاس»، الشغوف جداً بالصين، زارها أكثر من مائة مرة، حسب صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية، ولا يعتبر الخطر في شيوعية الصين، بل في تهاوي الغرب، وجهله بالعالم إلى حدّ أنه لم يدرك حتى الآن لماذا حدث تفجير برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك عام 2001. ومن أقواله المأثورة: «لا يمكن العيش في هذا العصر إذا لم يكن عندك الشعور بمختلف القوى المتعارضة». والنقص في إدراك ذلك يجعل الوسط المعماري التقليدي يُنكر تنظير «كولهاس» للريف، ويعتبره أمراً لا يُصّدَق، فهو أحد أبرز منظري عمارة المدن منذ صدور كتابه «نيويورك البَطّاحه» عام 1978، والذي يمجّد فيه «ثقافة الزحام» ويطري مشاعر الاهتياج التي تنتاب كل من في نيويورك. وعندما نقرأ دليل معرض «الريف المستقبل» ندرك أنه لا يدعو العالم للهجرة إلى الريف، فالريف العالمي أصلاً يهاجر إلى العالم، وليس على طريقة الهجرة التقليدية بل بوسائل لا تخطر على البال. ولا نكتشف ذلك في مدن التخوم الأوروبية التي يغزوها المهاجرون حالياً، بل في بلدة نائية بجبل سويسري، حيث يسوق فلاح من سريلانكا جراراً زراعياً.
ومعروضات عمارة الريف مزيج من تصاميم تصويرية، ورسوم جدارية، وستائر مطبوعة، ومواد أرشيفية، وتماثيل روبوتية. وتمتد المعروضات على ستة مستويات في متحف «غوغنهايم»، حيث يقف في مدخله جرار زراعي ضخم يعمل بالتحكم عن بعد. ويستخدم هذا الجرار في مزارع صناعية شيّدتها العمارة الحديثة على طوابق عدة تحدِث ثورة في الإنتاج الزراعي توفر آلاف أضعاف ما توفره الزراعة التقليدية في مساحات أصغر بآلاف المرات. وهذا هو الريف الجديد الذي نرى بواكيره تعمل بالكومبيوتر في مزارع ورود وطماطم جعلت بلداناً شحيحة بالأرض من أكبر البلدان المنتجة للمحاصيل الزراعية.
وقد وجد الريف العالمي في «كولهاس» بطله الذي لا يُقهرُ، وكيف يُقهر من كانت مهنته الأصلية الصحافة، وينكبُّ كصحفي ضليع على بحث كثيف حول كل ما يخص المشروع المعماري الذي يبنيه. ووفيما يعتبرُ كل شخص مدينة "ستوكهولم" في السويد نموذجاً حضارياً، يرى "كولهاس" في أكبر مدن نيجيريا (لاغوس) النموذج الواقعي، وليس المثالي. . وفيما ينغمر المعماريون العالميون بإشادة الأبراج الشاهقة، ينصرف هو لجعل «دائرة عمارة المتروبول»، التي أسسها في روتردام بهولندا، من أكبر مراكز التنظير والإنشاء المعماري في العالم، تمتد مكاتبها من بكين إلى لندن ودبي ونيويورك.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا