عُزل عمر البشير(11/4/2019) عن الحُكم، بعد ثلاثين سنةً مِن انقلاب «الإنقاذ» الإخواني(30/6/1989)، وقُبيل عزله، سأله كبار الضَّباط عن الحل؟! فأجاب: «نحن المالكية، لنا فتوى تبيح قتل ثلث المحتجين، ليعيش البقية بعزة»(فيديو للفريق حميدتي). طبعاً، اعتبر البشير نظامه زمن عِزة للسُّودانيين، لذا أراد قتل الثُّلث كي يبقى الثّلثان متمتعين بالعِزة!
نأتي على أصل الفتوى، التي نسبوها للإمام مالك بن أنس(ت179ه) مؤسس مدرسة الحديث بالحجاز، مقابل مدرسة الرَّأي الحنفية بالعراق. جاء في «شفاء الغليل في بيان الشَّبه والمُخيل ومسالك التَّعليل»، لأبي حامد الغزالي(ت505هج)، عند حديثه عن دفع هلاك جماعة بالتضحية بفردٍ واحد، إذا كانت نجاة رُكاب سفينة مشرفة على الغرق برمي أحدهم في البحر، لكان في ذلك اقتضاء المصلحة لبقية الرُّكاب، ويجري الاختيار بالقرعة.
ثم نسب الغزالي إلى الإمام مالك، ناقلاً عن شيخه أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين(ت478هج): «نُقل عن مالك -رضي الله عنه- قتل ثلث الأُمة لاستبقاء ثلثيها، مِن طريق المصالح، فما رأيكم فيه»؟! يُجيب الغزالي بأن ذلك «بدعة لا يجوز القول بها». لكن لماذا تُنسب للإمام مالك وهو لم يُقلها، ولم يذكرها فقهاء المالكية في كتبهم؟! نعتقد جاء ذلك مِن باب النزاع بين المذاهب، فالجويني وتلميذه الغزالي كانا شافعيين أشعريين، وكان المذهب المالكي منتشراً بشمال أفريقيا، وبما أن الإمام مالك يبني مذهبه على مصالح النَّاس، أسندت له مثل هذه الفتوى، التي اتخذها البشير ليفني بها ثلث المحتجين ضد نظامه!
يقول شهاب الدِّين القرافي المصري(ت684هج)، أحد أعلام المذهب المالكي، راداً على نسبة الفتوى لإمام مذهبه: «إن إمام الحرمين قد نسب إلى الإمام مالك إنه يُجيز قتل ثلث الأُمة لبقاء الثلثين، بناء على مصلحة الأغلب»! وأردف القرافي قائلاً: «المالكية ينكرون ذلك إنكاراً شديداً، وإن هذه النّسبة لم توجد في كتبهم، إنما هي في كُتب المخالف لهم»(نفائس الأصول في شرح المحصول).
غير أن فتوى القتل لمصلحة النِّظام، إذا لم تكن موجودة لأوجدها المحتاجون إليها، في دعم سطوتهم بقوة الدِّين. كان السلطان العثماني سليم الأول(ت1520) حنفياً، ليس على المذهب المالكي كي يأخذ الفتوى عنه، قال لفقيه مذهبه علاء الدِّين الجمالي(ت1525) لما نهاه عن قتل المئات ممَن خالفوا أمره، في تجارة الحرير بأدرنة، بعد قرار المنع: «أَما يحل قتل ثلث العالم لنظام بقي»!(طاشكيري، الشَّقائق النُّعمانية في علماء الدَّولة العثمانية).
هنا لابد مِن أخذ تنقية التُّراث الفقهي على محمل الجد، وإلا فهناك في هذا التراث أحكام قاتلة، دُست حسب الظرف والهوى، وما تعلق ذلك بالمعارك بين المذاهب، وما نطق به البشير إلا مِن التركة الثّقيلة التي تُبعث عند الحاجة.
إن فتاوى القتل الجماعي، لم تقتصر على مذهب دون آخر، وقد كتبنا مراراً عن فتاوى رجال الدين بالعراق، تقضي بقتل أكثر مِن عشرة آلاف عراقي، بدافع أن السلطة بعد انقلاب فبراير 1963، وبسبب قيام حركة عسكرية مضادة آنذاك، في 3 يوليو 1963 قرر الحاكمون تُطبيق الشريعة الإسلامية بخصومهم، وبالفعل منح رجال الدين الفتاوى لتطبيق الشرع، هذا ما شهد به الذي أخذ الفتاوى من المفتين، وكُلف بالقتل(مذكرات عبد الغني الراوي، وورد خبرها في مذكرات طه جابر العلواني، وفي أوكار الهزيمة للفكيكي...)! وهكذا يعملون على تطبيق حاكمية الله! لكن الأغرب في ما جاء في الفتاوى، إنه بعد قتل المرتد إخراج حصة الإمام(الخمس) مِن ميراثه! أتدرون مَن يستلمها؟! إنه المفتي بالقتل نفسه! فتصوروا فداحة الخطب.
ما قاله الرَّئيس «الإخواني» المخلوع البشير ليس مستبعداً ولا مستغرباً، فالقوى الدينية السياسية كافة، تعتبر حكمها «حاكمية إلهية»، والمقتول بسلاحها «عدو الله»، فالقتل الجاري في المحتجين العراقيين، وقد زاد العدد على السبعمائة، مِن غير آلاف الجرحى، القتل بالقنص والغاز السَّام والطعن بالسكاكين إلى غير ذلك. هناك مَن يبيحه مِن رجال الدين المنتمين للأحزاب الدينية، والمتواطئين معها، ويمكن اعتبار أي فقيه لا يفتي بحرمة دم المحتجين، ويلوذ بالسكوت، مشاركاً بقتلهم، ويُعد مَن ينعت المتظاهرين والمتظاهرات بالرذيلة ومحاربة الدِّين مفتياً بقتلهم جهاراً.
أقول: ما معنى قدسية تُراث مثل هذا، كي لا يُمس بتجديد؟! حتى صار البشير يقول:«نحن المالكية، ولنَّا فتوى»! مع أن الإمام مالك امتنع على أبي جعفر المنصور(ت158هج)، في أن يجعل كتابه «الموطأ» للمسلمين كافة.
يفصل ابن الرُّومي(ت283هج) بين زمن وآخر، زمن العسل وزمن السُّم، فالثلاثون سنةً، التي عرف بها السُّودانيون«بيوت الأشباح»، أراد البشير تتويجها بفناء ثلث الأُمة، على أنها فتوى مالكية، ثلاثون سنة مرت على السُّودانيين يومها بعام:«وهذا الدَّهرُ أطوارٌ تراها/ وفيها الشّهدُ يُجنى والسّمامُ/ وأعوامٌ كأنَ العامَ يومٌ/وأيامٌ كأنَ اليومُ عامُ»(الديوان/ قصيدة عش للمكرمات).
*كاتب عراقي