في يناير الماضي، نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية مقالاً بعنوان «وثيقة إسرائيلية سرية تكشف عن خطة لإبعاد العرب عن أراضيهم»، مقالٌ وجدته مزعجاً لعدة أسباب. فبالنظر إلى العنوان، اعتقدت في البداية أن القصة ستتعلق بسياسات إسرائيل في الضفة الغربية حيث صنفت الإدارة العسكرية الإسرائيلية، منذ بداية الاحتلال، مناطق واسعة من الأراضي «مغلقة» أمام الفلسطينيين، لأسباب «أمنية» على ما يُفترض. هذا في حين صنفت مناطق أخرى «فضاءات خضراء» – تسمية قد يبدو أن لها علاقة بالبيئة، إلا أنها كانت تعني بكل بساطة أن الفلسطينيين لا يستطيعون البناء في تلك الأراضي أو استغلالها بأي طريقة أخرى. ولكن مع مرور الزمن، حلت محل كل من المناطق «المغلقة» و«الفضاءات الخضراء» مستوطنات – فقد كان ذلك هو هدف إسرائيل أصلاً. وعلى سبيل المثال، فإن المستوطنة الإسرائيلية الضخمة التي تدعى «هار حوما» بنيت على تلة من الأراضي المملوكة لفلسطينيين بين بيت لحم والقدس تدعى «أبوغنيم». في البداية، حددت إسرائيل الجبل «منطقة خضراء»، ولكن همها لم يكن الإبقاء عليه «أخضر»، وإنما منع مالكيه الفلسطينيين من استخدام الأرض إلى أن تصبح إسرائيل مستعدة لإنشاء مستوطنة لليهود فقط في المكان نفسه.
غير أنني عندما شرعت في قراءة مقال «هآرتس»، أدركت أنه لا يتعلق بممارسات إسرائيل الحالية في الأراضي المحتلة في 1967، وإنما بعقود من جهود لمؤسسة الدفاع الإسرائيلية من أجل دفن أو إخفاء وثائق حول عمليات الاستيلاء نفسها على الأراضي التي كان الإسرائيليون قد استخدموها خلال السنوات القليلة الأولى من عمر دولتهم.
«هآرتس»، ومما يحسب لها، نشرت وتنشر عدداً مهماً من هذه المقالات التاريخية التي تكشف السياسات الشائنة التي استخدمتها إسرائيل من أجل «التطهير العرقي» للفلسطينيين من أرضهم من أجل ضمان أن تكون الدولة الجديدة «أكثر يهودية وأقل عربية». وبينما كنت أقرأ كل واحدة من تلك المقالات، علي أن أعترف بأن ردود فعلي تراوحت بين الغضب والسخط والشعور بنوع من العزاء ورد الاعتبار لظهور الحقيقة.
لقد شعرت بالغضب والسخط لأنه قبل 40 عاماً، عندما كتبتُ أول مرة حول هذه الممارسات الإسرائيلية في كتيب بعنوان «الفلسطينيون: الضحايا غير المرئيين»، نددت بي منظمات يهودية أميركية وموالية لإسرائيل بسبب آرائي المعارضة لإسرائيل. وقتئذ، كانت هذه المنظمات تشتغل بالطريقة نفسها التي يشتغل بها اليوم موقع Canary Mission المشبوه أو مشروع Campus Watch. فقد ألّفت هذه المنظمات نبذات حبلى بالتهديد والتشهير حول الكتّاب والنشطاء الأميركيين العرب. وكانت تستخدم هذه النبذات من أجل الضغط على الكليات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية حتى تعدل عن استضافتنا. واتهمتنا بتحريف التاريخ، واختلاق الأكاذيب، وزعمت أن دافعنا هو عداء ضد اليهود. وبالطبع، لم نكن نفعل أيا من تلك الأشياء، وكل ما كنا نقوم به هو الكتابة عن تاريخ ما فعلته إسرائيل، وما تواصل فعله من أجل إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم وحرمانهم من حقوقهم.
الآن عندما أقرأ التاريخ نفسه في صحيفة إسرائيلية، لا يسعني سوى التفكير في السعر الذي اضطر كثير من النشطاء والمثقفين الأميركيين العرب لدفعه بسبب قولهم الحقيقة فقط. وبالتالي، أجل، إنني أشعر بالغضب والسخط. ولكني في الوقت نفسه أشعر بنوع من الارتياح ورد الاعتبار، لأنه رغم الجهود القمعية لمنظمات يهودية أميركية قوية من أجل إسكات أصواتنا، إلا أن الحقيقة أخذت تنكشف أخيراً.
جانب أخير في المقال وجدته مثيراً للاهتمام، ألا وهو الجهد الذي تبذله السلطات الإسرائيلية والوسائل التي تستخدمها من أجل دفن السجل التاريخي الذي من شأنه إثبات الظلم الفاحش، الذي ارتكبته في إقامة دولتها. فوفق مقال «هآرتس»، فإن هذا السجل يشمل أدلة على «نهب وتدمير البلدات العربية خلال حرب الاستقلال (و)... أدلة على أعمال الطرد وشهادات حول مخيمات نصبت من أجل الأسرى».
المقال يوضح أن «التستر» لم يكن هدفه إخفاء الحقيقة فقط، وإنما أيضاً مد القائمين على البروباغندا الإسرائيلية بالفرصة لـ«التشكيك» بمكر ودهاء في ما إن كانت هذه الأشياء قد حدثت أصلاً، أو مجرد إنكار حدوثها كلياً ثم الطعن في مصداقية من يقولون بخلاف ذلك. ومثلما يقول أحد المسؤولين الذين أشار إليهم المقال حول ضرورة إخفاء أي وثائق بخصوص ما فعلته إسرائيل للفلسطينيين، فـ«إذا كتب أحدهم أن الحصان أسود، ولم يكن الحصان خارج الحظيرة، فإنه لن يستطيع أبدا إثبات أن الحصان أسود حقا». والخلاصة هي أنك إذا أخفيت السجلات أو أتلفتها، فإن أي مؤرخ لن يستطيع أبدا إثبات وقوع تلك الأحداث.
الخطة الإسرائيلية باختصار تقوم على التالي: أولا، اخفِ التاريخ وانكر كل ما يقال حول السياسات القمعية المتبعة، وبعد ذلك، ندد بأي شخص يرفض قبول هذه الرواية الخيالية لـ«التاريخ». وأخيرا، اخفِ عن الجمهور قدر ما استطعت من التاريخ الحقيقي – حتى يصبح من الصعب التصدي للرواية التاريخية الخيالية «التي تعرضت لعملية الإخفاء».
وفي النهاية، يمكن القول: إن المزعج بشأن هذه الممارسة الإسرائيلية بشكل خاص هو أنها ما زالت هي أسلوب اشتغالهم. ذلك أنهم مستمرون في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين باستخدام التكتيكات القديمة نفسها التي استخدموها من أجل «تهويد الجليل». ففي أوائل الخمسينيات، استخدم الإسرائيليون «قوانين الدفاع في حالات الطوارئ»، التي ورثوها عن البريطانيين لإعلان أي منطقة فلسطينية «مغلقة». وقاموا بذلك كوسيلة للسيطرة على «أراضي الدولة... إلى أن يسوّى وضعها الدائم ويتسنى بدء الاستيطان الإسرائيلي في المناطق العربية سابقا».
وهذا بالضبط ما فعله الإسرائيليون عبر الضفة الغربية من خلال المناطق «المغلقة» و«الخضراء». وما فعلته «خطة السلام»، التي أعلن عنها ترامب بالضبط هو إضفاء الطابع الرسمي على «الوضع النهائي» للأراضي الفلسطينية المستولى عليها، لصالح إسرائيل.
لقد أخفى المدافعون عن إسرائيل قصدها والأدلة على جرائمها على مدى عقود، ولكن الحقيقة بدأت تنجلي أخيرا. ولا شك أن من كانوا يؤكدون على هذه الحقيقة باتوا يستطيعون الشعور ببعض الارتياح ورد الاعتبار الآن، ولكننا يمكننا أن نشعر أيضا بالغضب والسخط والقلق العميق بشأن المستقبل.
غير أنني عندما شرعت في قراءة مقال «هآرتس»، أدركت أنه لا يتعلق بممارسات إسرائيل الحالية في الأراضي المحتلة في 1967، وإنما بعقود من جهود لمؤسسة الدفاع الإسرائيلية من أجل دفن أو إخفاء وثائق حول عمليات الاستيلاء نفسها على الأراضي التي كان الإسرائيليون قد استخدموها خلال السنوات القليلة الأولى من عمر دولتهم.
«هآرتس»، ومما يحسب لها، نشرت وتنشر عدداً مهماً من هذه المقالات التاريخية التي تكشف السياسات الشائنة التي استخدمتها إسرائيل من أجل «التطهير العرقي» للفلسطينيين من أرضهم من أجل ضمان أن تكون الدولة الجديدة «أكثر يهودية وأقل عربية». وبينما كنت أقرأ كل واحدة من تلك المقالات، علي أن أعترف بأن ردود فعلي تراوحت بين الغضب والسخط والشعور بنوع من العزاء ورد الاعتبار لظهور الحقيقة.
لقد شعرت بالغضب والسخط لأنه قبل 40 عاماً، عندما كتبتُ أول مرة حول هذه الممارسات الإسرائيلية في كتيب بعنوان «الفلسطينيون: الضحايا غير المرئيين»، نددت بي منظمات يهودية أميركية وموالية لإسرائيل بسبب آرائي المعارضة لإسرائيل. وقتئذ، كانت هذه المنظمات تشتغل بالطريقة نفسها التي يشتغل بها اليوم موقع Canary Mission المشبوه أو مشروع Campus Watch. فقد ألّفت هذه المنظمات نبذات حبلى بالتهديد والتشهير حول الكتّاب والنشطاء الأميركيين العرب. وكانت تستخدم هذه النبذات من أجل الضغط على الكليات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية حتى تعدل عن استضافتنا. واتهمتنا بتحريف التاريخ، واختلاق الأكاذيب، وزعمت أن دافعنا هو عداء ضد اليهود. وبالطبع، لم نكن نفعل أيا من تلك الأشياء، وكل ما كنا نقوم به هو الكتابة عن تاريخ ما فعلته إسرائيل، وما تواصل فعله من أجل إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم وحرمانهم من حقوقهم.
الآن عندما أقرأ التاريخ نفسه في صحيفة إسرائيلية، لا يسعني سوى التفكير في السعر الذي اضطر كثير من النشطاء والمثقفين الأميركيين العرب لدفعه بسبب قولهم الحقيقة فقط. وبالتالي، أجل، إنني أشعر بالغضب والسخط. ولكني في الوقت نفسه أشعر بنوع من الارتياح ورد الاعتبار، لأنه رغم الجهود القمعية لمنظمات يهودية أميركية قوية من أجل إسكات أصواتنا، إلا أن الحقيقة أخذت تنكشف أخيراً.
جانب أخير في المقال وجدته مثيراً للاهتمام، ألا وهو الجهد الذي تبذله السلطات الإسرائيلية والوسائل التي تستخدمها من أجل دفن السجل التاريخي الذي من شأنه إثبات الظلم الفاحش، الذي ارتكبته في إقامة دولتها. فوفق مقال «هآرتس»، فإن هذا السجل يشمل أدلة على «نهب وتدمير البلدات العربية خلال حرب الاستقلال (و)... أدلة على أعمال الطرد وشهادات حول مخيمات نصبت من أجل الأسرى».
المقال يوضح أن «التستر» لم يكن هدفه إخفاء الحقيقة فقط، وإنما أيضاً مد القائمين على البروباغندا الإسرائيلية بالفرصة لـ«التشكيك» بمكر ودهاء في ما إن كانت هذه الأشياء قد حدثت أصلاً، أو مجرد إنكار حدوثها كلياً ثم الطعن في مصداقية من يقولون بخلاف ذلك. ومثلما يقول أحد المسؤولين الذين أشار إليهم المقال حول ضرورة إخفاء أي وثائق بخصوص ما فعلته إسرائيل للفلسطينيين، فـ«إذا كتب أحدهم أن الحصان أسود، ولم يكن الحصان خارج الحظيرة، فإنه لن يستطيع أبدا إثبات أن الحصان أسود حقا». والخلاصة هي أنك إذا أخفيت السجلات أو أتلفتها، فإن أي مؤرخ لن يستطيع أبدا إثبات وقوع تلك الأحداث.
الخطة الإسرائيلية باختصار تقوم على التالي: أولا، اخفِ التاريخ وانكر كل ما يقال حول السياسات القمعية المتبعة، وبعد ذلك، ندد بأي شخص يرفض قبول هذه الرواية الخيالية لـ«التاريخ». وأخيرا، اخفِ عن الجمهور قدر ما استطعت من التاريخ الحقيقي – حتى يصبح من الصعب التصدي للرواية التاريخية الخيالية «التي تعرضت لعملية الإخفاء».
وفي النهاية، يمكن القول: إن المزعج بشأن هذه الممارسة الإسرائيلية بشكل خاص هو أنها ما زالت هي أسلوب اشتغالهم. ذلك أنهم مستمرون في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين باستخدام التكتيكات القديمة نفسها التي استخدموها من أجل «تهويد الجليل». ففي أوائل الخمسينيات، استخدم الإسرائيليون «قوانين الدفاع في حالات الطوارئ»، التي ورثوها عن البريطانيين لإعلان أي منطقة فلسطينية «مغلقة». وقاموا بذلك كوسيلة للسيطرة على «أراضي الدولة... إلى أن يسوّى وضعها الدائم ويتسنى بدء الاستيطان الإسرائيلي في المناطق العربية سابقا».
وهذا بالضبط ما فعله الإسرائيليون عبر الضفة الغربية من خلال المناطق «المغلقة» و«الخضراء». وما فعلته «خطة السلام»، التي أعلن عنها ترامب بالضبط هو إضفاء الطابع الرسمي على «الوضع النهائي» للأراضي الفلسطينية المستولى عليها، لصالح إسرائيل.
لقد أخفى المدافعون عن إسرائيل قصدها والأدلة على جرائمها على مدى عقود، ولكن الحقيقة بدأت تنجلي أخيرا. ولا شك أن من كانوا يؤكدون على هذه الحقيقة باتوا يستطيعون الشعور ببعض الارتياح ورد الاعتبار الآن، ولكننا يمكننا أن نشعر أيضا بالغضب والسخط والقلق العميق بشأن المستقبل.