تعني صناعة المستقبل، في جوهرها، التخطيط لبناء اقتصادي قوي ومزدهر ومستدام، وبناء نموذج تنموي ناجح يعزز تنافسية الاقتصاد العالمية، ويحقق التفوق للدولة المعنية في المجالات التنموية المختلفة مقارنةً بنظيراتها من دول العالم المختلفة. وقد ارتبطت التحولات البشرية الكبرى بالتطورات الاقتصادية في الأساس، فالانتقال من الحياة البدائية، القائمة على الرعي والتقاط الثمار، إلى نمط الإنتاج الزراعي كان إيذاناً ببدء البشرية أولى مراحل التطور الحضاري الإنساني، التي استمرت قروناً طويلة قبل أن تأتي الثورة الصناعية، التي انطلقت في القرن الثامن عشر، بدوراتها المختلفة (الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة)، لتكمل مسيرة التطور الحضاري البشري، فيما تقف البشرية اليوم على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة، التي يتوقع أن تشكل محور التطور الاقتصادي العالمي المستقبلي.
والحديث عن صناعة مستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة، في نصف القرن المقبل، يدور في الأساس حول كيفيَّة الانتقال من مرحلة الاقتصاد القائم على النفط إلى مرحلة ما بعد النفط، من خلال بناء نموذج اقتصادي تنموي مستدام، يعزز ما حققته الدولة من تطور تنموي كبير في السنوات الخمسين الماضية، ويضع اقتصادها في مصاف الاقتصادات الكبرى في المستقبل، ويجعلها شريكة أساسية في صنع مستقبل الاقتصاد العالمي، وهو ما يدفعنا إلى الحديث عن ماهية القطاعات التي يمكن أن تقود الاقتصاد الإماراتي في المستقبل بما يحقق هذه الأهداف، ومحركات النمو الاقتصادي المستقبلي المنشود.
النفط محركاً رئيسياً للاقتصاد في نصف القرن الماضي
شكل النفط المحرك الأهم للاقتصادات الخليجية بشكل عام، والاقتصاد الإماراتي بشكل خاص، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، بما وفره من عائدات مالية ضخمة، استثمرتها دولة الإمارات العربية المتحدة بفاعلية وكفاءة في بناء دولة الاتحاد، وتحديث بنيتها التحتية، وإطلاق نموذجها التنموي الرائد إقليمياً وعالمياً، فخلال الخمسين عاماً الماضية هيمن النفط بصورة واضحة على مؤشرات الاقتصاد الوطني الإماراتي، كغيره من الاقتصادات الخليجية. ففي عام 1971، وهو العام نفسه الذي أسس فيه المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، أسهم القطاع النفطي بأكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، الذي وصل إلى 6.5 مليار درهم آنذاك، ووصلت صادرات النفط إلى 750 ألف برميل في اليوم الواحد، مدرَّةً على الدولة الفتيَّة إيرادات مالية ضخمة، أسهمت في نهضتها الاقتصادية والاجتماعية. وقد أدركت القيادة الرشيدة، حفظها الله، أهمية استغلال المداخيل المالية الضخمة لصناعة النفط في العمل على تطوير القطاعات الأخرى للاقتصاد، فتم إنشاء جهاز أبوظبي للاستثمار عام 1976، لاستثمار الفائض من مداخيل الدولة من صادرات النفط، وتنويع مصادر الإيرادات، وتقليل الاعتماد على النفط. وبرغم جهود دولة الإمارات في تطوير البنى التحتية، التي أسهمت في تطوير قطاعات أخرى من الاقتصاد، فإن الصناعة النفطية ظلت المحرك الأساسي للاقتصاد، إذ أسهمت بنسبة 79% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة في عام 1980.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة، التي لعبها النفط بصفته محركاً للاقتصاد الوطني في الخمسين عاماً الماضية، فقد انطوى الاعتماد المفرط عليه على إشكاليات اقتصادية وتنموية عدَّة، ولاسيما نتيجة التقلُّب الواضح في أسعار النفط العالمية لأسباب اقتصادية واستراتيجية وسياسية وحتى نفسية، وهو ما جعل الاقتصاد الوطني يعاني حالات عدم استقرار في بعض الأحيان، وخصوصاً في الفترات التي كانت تنهار فيها الأسعار، وهذا الأمر - إضافة إلى القناعة السياسية بأن النفط في النهاية هو مجرد سلعة آيلة للنضوب، أو أنه سيفقد قيمته لسبب أو لآخر (مثلما حدث مع الفحم على سبيل المثال) - دفع صانع القرار الوطني إلى البحث عن بدائل اقتصادية أخرى للنفط، والعمل على تنويع مصادر الدخل القومي حتى لا يظل الاقتصاد رهينة لتقلُّبات أسعار هذه السلعة الاستراتيجية، واستثمار عوائد النفط الخام في تسريع سياسة تنويع مصادر الدخل.
ومع الاعتراف بحقيقة نجاح سياسة التنويع الاقتصادي، التي انتهجتها الدولة في العقود الأخيرة، ونجاحها في توظيف عوائد النفط لبناء نموذج تنموي رائد إقليمياً وعالمياً، فإن النفط لا يزال يمثل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، ولا تزال صادراته تُنتج الجزء الأكبر من الإيرادات الحكومية، وهي المسهم الرئيسي في الميزانيات الحكومية والناتج المحلي الإجمالي. فعلى سبيل المثال أسهم قطاع النفط بنسبة 22% من الناتج المحلي الإجمالي في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2017، وشكل 49% من مجموع قيمة الصادرات عام 2018. ومع الاعتراف بحقيقة أن اقتصاد الإمارات هو الأكثر تنوُّعاً في منطقة الخليج العربي (أسهم قطاع النفط بنسبة 43% من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة العربية السعودية عام 2017، وشكل 66% من مجموع قيمة الصادرات عام 2018، وبلغت هذه النسب في سلطنة عُمان 36% و65% تباعاً، ونحو 55% و81% في الكويت)، فإن الحديث عن مرحلة ما بعد النفط، وعن البحث عن محركات جديدة للنمو الاقتصادي المستقبلي يظل عنصراً حاسماً في تحديد مستقبل دولة الإمارات.
محركات النمو الاقتصادي المستقبلي
انطلاقاً من مقولة إن المقدمات ترهن الخواتيم، يمكن القول بقدر كبير من الثقة إن مستقبل الاقتصاد العالمي في المدى المنظور سيرتكز في الأساس على ما يشهده العالم اليوم من ثورة معرفية وتكنولوجية غير مسبوقة، فالعالم يعيش إرهاصات الثورة الصناعية الرابعة، التي يُطلَق عليها اسم الثورة الرقمية، وأهم ملامحها: الطباعة ثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات الضخمة، والروبوتات، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من المظاهر والتجليات التي ظهرت إلى العلن. ومكمن التحدي الرئيسي هنا هو أن هذه التحولات، التي تشهدها البشرية اليوم في المجالات المعرفية والتكنولوجية، هي مجرد إرهاصات، إذ لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تصل الثورة المعرفية والتقنية، ذلك بأن المعرفة تتزايد وتتراكم بشكل غير مسبوق، وجوانب الإبداع والابتكار فيها لا تتوقف، وهو ما يجعل التنبؤ بمستقبل الاقتصاد العالمي أمراً في غاية الصعوبة، ويعقّد مهمة وضع الخطط اللازمة للتعامل مع مثل هذه التحولات العالمية.
وهذا بطبيعة الحال ليس مبرّراً للتقاعس، وإنما دعوة إلى بذل مزيد من الجهد والعمل الدؤوب لمواكبة هذه الثورة المعرفية والتكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم، وتحقيق التقدم فيها، من خلال تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة بصفتها محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي المستقبلي، فدور التكنولوجيا لا يقتصر على خلق مجالات عمل وقطاعات اقتصادية جديدة، وإنما يشمل تعزيز كفاءة استغلال الموارد المتاحة وإنتاجية العمل في القطاعات المختلفة القائمة بالفعل، من خلال تغذيتها بأحدث التقنيات التي تتماشى مع متغيرات الحياة وتحدياتها، فالتكنولوجيا، كما يصفها بعضهم، هي الطاقة المولّدة حالياً لكل قطاع، سواء كان موجوداً فعلياً أو مستحدثاً. كما يصف بعض المتخصصين اقتصاد البيانات الضخمة بأنه «النفط الجديد» الذي يمكن أن ينعش اقتصادات الدول في المستقبل، إذا أحسنت استغلال الفرص والإمكانيات الاقتصادية - التي تزخر بها هذه البيانات الضخمة، التي تشكل صلب استراتيجيات شركات التقنية العملاقة - في خلق قطاعات اقتصادية جديدة، فضلاً عن تطوير القائم منها. وإضافةً إلى ذلك، فإن تعزيز الاستثمار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يعزّز القدرات الاقتصادية للدولة مستقبلاً، بما توفره هذه التطبيقات بمجالاتها المختلفة من فرص ضخمة لتطوير الاقتصادات المستقبلية وتعزيز تنافسيَّتها.
قيادتنا الرشيدة واعية بالتحولات
وما يجعلنا متفائلين هنا هو أن قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، واعية لأهمية هذه التحولات، وأيضاً لديها العزيمة والإصرار على المشاركة الفاعلة فيها، من خلال رؤى استراتيجية وأطر مؤسسية واضحة، إذ أنشأت «مجلس الثورة الصناعية الرابعة»، و«مجلس علماء الإمارات»، و«وزارة الذكاء الاصطناعي»، و«جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي»، وأطلقت العديد من الاستراتيجيات الطموحة مثل «استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي»، و«استراتيجية الإمارات للثورة الصناعية الرابعة»، وغيرها الكثير من الاستراتيجيات والمبادرات.
ويتطلَّب تعزيز هذا التوجُّه إشراك القطاع الخاص والشركات المتوسطة والصغيرة والناشئة، بالإضافة إلى الجهات والأفراد المبتكرين، في جهود مواكبة الثورة المعرفية والتكنولوجية، وتطوير منظومة متكاملة لتشجيع الابتكار واستقطاب الموهوبين وأصحاب المشروعات في جميع المجالات، وخصوصاً في مجال الصناعة المعرفية، وتوجيه مزيد من الاهتمام والموارد إلى مؤسسات البحث العلمي، وخاصة في المجالات التكنولوجية، وهذه القضايا أيضاً تدركها قيادتنا الرشيدة، وتعمل عليها بشكل حثيث، وقد عبَّر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، عن هذا الأمر بوضوح قائلاً: «إننا نركز في جهودنا لصناعة مستقبل دولة الإمارات على رؤية استشرافية تتبنَّى التوجهات والتطورات العالمية، وتدعم العقول الشابة والمواهب الواعدة، وتشجّع الابتكارات الحديثة والأفكار الإبداعية، وتتبنى التكنولوجيات المتطورة. نريد أن تكون الإمارات الخيار الأول لشركات التكنولوجيا والمواهب المتخصصة بمجالات الذكاء الاصطناعي حول العالم. نريد أن تكون الإمارات من أفضل دول العالم في تطوير هذا القطاع المستقبلي والاستثمار في إمكانياته». وهذا التوجُّه الحكيم كفيل وحده بأن يحقق للإمارات ما تصبو إليه في المستقبل من اقتصاد قوي ومزدهر ومستدام.
اقتصادات الفضاء
وبالإضافة إلى هذه المجالات، فإن هناك مجالات أخرى يمكن أن تُشكل محركات مهمَّة للنمو الاقتصادي المستقبلي، بعضها حديث مثل تكنولوجيا الفضاء، أو ما يمكن أن نصفه باقتصادات الفضاء، التي تلعب دوراً متزايداً في ازدهار الاقتصادات الحديثة، وتنشيطها، بفضل الاستخدام المكثَّف لها، خاصةً الأقمار الاصطناعية في مجالات الملاحة الجوية والبحرية، والاتصالات، واستكشاف الموارد الأرضية، والاستشعار عن بعد، وإدارة الكوارث والأزمات، وحركة النقل، والتخطيط العمراني الحضري، وهو ما يجعل من كل هذه الأنشطة مُحركاً للنمو الاقتصادي، فضلاً عن توفير العديد من الوظائف في جميع مراحل الإنتاج الخاصة بالمعدات الفضائية.
قطاع السياحة والسفر
وكذلك من هذه المجالات، التي ستواصل دورها بصفتها محركةً للاقتصاد العالمي والوطني، قطاع السياحة والسفر، مع تأكيد أهمية التطوير المستمر للخدمات المقدمة إلى السائحين والتعرف إلى تفضيلاتهم من خلال التكنولوجيات الحديثة، وابتكار وسائل جديدة للترفيه تناسب مختلف الأعمار والفئات. وهناك أيضاً قطاع الطاقة، فالطاقة هي عصب الاقتصاد في كل زمان ومكان. ومن المهم هنا الإشارة إلى أمرين: الأول أن دولة الإمارات حريصة على المشاركة في الجهود العالمية لاستكشاف مصادر جديدة للطاقة، حتى تحافظ على دورها الرائد في أسواق الطاقة العالمية، وقطعت شوطاً مهماً في هذا المجال من خلال تركيزها على مصادر الطاقة المتجددة، واستثمارها في الطاقة النووية النظيفة. والثاني أن التقديرات تشير إلى أن النفط سيستمر ربما لخمسين سنة مقبلة، وهو ما يعني أننا أمام فرصة لتطوير هذا القطاع والاستفادة من عوائده المالية، فضلاً عن الاستثمار في الصناعات المرتبطة به، والتي لن تتأثر كثيراً بأي تغيُّرات يمكن أن تطرأ على النفط وأسعاره، فضلاً عمَّا تمثله هذه الصناعات من قيمة مضافة عالية. ومن ذلك أيضاً قطاع الصناعة، الذي يحتاج إلى تطوير كبير بحيث يتم التركيز على الصناعات المعرفية والتكنولوجية، وقطاع النقل والمواصلات والبنية التحية، وغير ذلك من قطاعات يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في رسم مستقبل واعد جداً للاقتصاد الإماراتي.