نُصادف في حياتنا أناساً كثيرين يعيشون بعقلية الماضي، ويتصورون أن الزمن توقف عند لحظة زمنية محدَّدة، أو أن العالم من حولهم لم يتغير، وأنه يمكن التعامل مع شخوصه وأحداثه وتطوراته بالعقليات نفسها التي سادت في الماضي؛ فهذا الأمر ليس غريباً، ويمكننا أن نرى أمثلة كثيرة له في يومنا هذا؛ ولاسيما لدى الجماعات الدينية السياسية التي تريد العودة بدولنا ومجتمعاتنا إلى زمن «الخلافة» وعصور الإسلام الأولى، متجاهلةً حقائق التاريخ والتطور الحضاري البشري. لكن الغريب حقاً هو أن نجد مراكز فكر غربية - يُفترَض أنها عريقة، وأن لها تقاليدها البحثية والعلمية الصارمة - تتبع النهج نفسه، وتتعامل مع قضايا منطقتنا في القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن التاسع عشر.
وهذا الاستنتاج خلصت إليه وأنا أتابع فعاليات مؤتمر الأمن الإقليمي في نسخته الخامسة عشرة، الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) في مملكة البحرين الشقيقة في الفترة من 22 إلى 24 نوفمبر 2019؛ فإدارة المعهد لفعاليات المؤتمر تجعل المتابع المتخصص لمثل هذه الفعاليات، والباحثين العالمين بآليات عمل المؤسسات البحثية، يشعرون بأن المعهد تعامل مع فعَّالية بهذه الأهمية والحضور السياسي، كما لو أنها شأن بريطاني خالص، أو كما لو أن بريطانيا لا تزال هي بريطانيا العظمى التي كانت تتحكم بالمنطقة في القرن التاسع عشر، وتفرض عليها وصايتها، وتقرر نيابة عنها؛ فجميع جلسات المؤتمر العامة، بلا استثناء، رأسها وأدارها المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ورئيسه التنفيذي، بالإضافة إلى عدد آخر من البريطانيين العاملين في المعهد، ولم تُعْطَ الفرصة لأي شخص آخر لرئاسة جلسات المؤتمر وإدارتها، ولا حتى من الدولة المضيفة نفسها، التي لم تبخل في توفير كل الإمكانيات والأجواء اللازمة لإنجاح المؤتمر.
«أهل مكةَ أدرى بشِعابها»
وتنطبق الملاحظة نفسها على المحاضرين والمشاركين في جلسات المؤتمر وفعالياته، التي هيمنت عليها الشخصيات البريطانية، ولاسيما من الجنرالات المتقاعدين والعاملين في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، الذين هيمنوا بالكامل على الجلسة الختامية، فيما جاء أغلب المشاركين من خارج بريطانيا من الدول التي كانت تُعَدُّ مستعمرات بريطانية في السابق، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين الغربيين الآخرين - ولاسيما من الكونجرس الأميركي، الذي قام أحد أعضائه المشاركين في المؤتمر بزيارة منزل البحريني نبيل رجب؛ في موقف أثار استياء كثيرين داخل الدولة المضيفة - وعدد قليل من المسؤولين الخليجيين. وبالرغم من أن المؤتمر يحمل صفة «الإقليمي»، ويختص في الأساس بمنطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي خاصة، فقد كانت الأمانة والموضوعية العلمية تقتضيان أن يشارك فيه عدد أكبر من الخبراء والمسؤولين الخليجيين والعرب، عملاً بالقاعدة التي تقول «أهل مكةَ أدرى بشِعابها»؛ لكن لأن المؤتمر قام على تنظيمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ولأن عقلية العاملين في المعهد البريطاني كان يغلب عليها، على ما يبدو، الاستغراق في الماضوية، والعيش بعقلية أن البريطانيين أدرى بالمنطقة من أبنائها مثلما كانوا في القرن التاسع عشر؛ فقد جاء اختيار المشاركين في جلسات المؤتمر على هذا الشكل الذي لا يعطي مجالاً واسعاً لأبناء المنطقة لطرح رؤاهم وأفكارهم، فيما تم إفساح مجال أكبر للبريطانيين للتعبير عن آرائهم في منطقة خرجت منذ عقود من نطاق سيطرتهم، وإن كانت عقليتهم لا تزال تنكر هذه الحقيقة.
فرصة لنا أم تهديد لمصالحهم؟
وقد انعكس هذا الأمر بوضوح في طبيعة الموضوعات التي تمت مناقشتها، والتي تم تناولها بأسلوب ضعيف أو سطحي، من خلال الحديث عما هو معلوم بالضرورة حتى للمتخصصين المبتدئين في المجالات الأمنية والسياسية، وطرح رؤى ومقاربات لا تمت للواقع بصلة، أو تم تناولها من زاوية لا تعكس حقيقة الاهتمامات والقضايا التي تشغل دولنا الخليجية والعربية ومصالحها الوطنية، بقدر ما تعكس اهتمامات البريطانيين أنفسهم، وما يرونه يمثل تهديداً أو تحدياً لمصالحهم هم، أو مصالح حلفائهم الغربيين في المنطقة. ويمكن أن أعطي مثالاً واحداً لذلك، يتمثل في الموقف الذي عبَّر عنه المحاضرون البريطانيون ومديرو الجلسات بشأن تنامي العلاقات الخليجية مع الصين والهند؛ حيث يمكن أن نستشف بسهولة من مدخلات هؤلاء وجود نوع من القلق بشأن تنامي نفوذ كلّ من الصين والهند في المنطقة، واحتمال أن يأخذ هذا النفوذ بعداً عسكرياً في المستقبل لحماية المصالح الاقتصادية للبلدين، ولاسيما الصين التي تمضي قدماً في تعزيز علاقاتها بدول الخليج العربية، والتي يتوقَّع أن تشهد طفرة كبيرة مستقبلاً في إطار سعي الصين إلى تنفيذ مبادرتها الطموحة «حزام واحد.. طريق واحد»؛ فهذا الأمر نظر إليه باحثو المعهد البريطاني والبريطانيون والغربيون المشاركون في فعاليات المؤتمر بصفته تحدياً لمصالحهم ونفوذهم في المنطقة، في حين أن الاهتمام الصيني بالمنطقة، والعلاقات الصينية- الخليجية المتنامية، تمثل لنا نحن في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والدول العربية كلها، فرصة لتنويع علاقاتنا الخارجية، وزيادة الفرص التجارية والاستثمارية التي تعود بالنفع على بلداننا.
غلبة الصفة الرسمية
وثمَّة ملاحظة أخرى كانت واضحة، خلال متابعة فعاليات المؤتمر، وهي غلبة الصفة الرسمية على المتحدثين والمشاركين في فعالياته، الذين كان جميعهم تقريباً من الوزراء والمسؤولين السياسيين والأمنيين، وسط غياب واضح للمفكرين والأكاديميين الذين يمكن أن يثروا النقاش؛ وهذا الأمر، وإن كان إيجابياً من حيث إتاحة منصة لتبادل الآراء السياسية، وتوفير إطار للحوار والتفاعل بين هؤلاء المسؤولين؛ فإنه ينطوي على جانب سلبي يتمثل في عدم القدرة على طرح الحلول والأفكار والتوصيات التي يمكن أن تسهم في حل القضايا الأمنية الإقليمية وتسويتها، ومعالجة الملفات المطروحة للنقاش؛ لأن السياسيين والرسميين غالباً ما يكونون أكثر تحفظاً في طرح أفكارهم؛ لأنهم مقيدون بسياسات دولهم، وبالإطار البروتوكولي، في حين أن وجود المفكرين والأكاديميين، ولاسيما من أبناء المنطقة، كان يمكن أن يسهم في تقديم تحليل أكثر عمقاً للأحداث والقضايا المطروحة للنقاش، وتقديم التوصيات والأفكار الإبداعية والمبتكَرة التي تسهم في طرح الحلول والمبادرات والرؤى الاستراتيجية التي تساعد على معالجة الأزمات القائمة بعيداً عن القيود السياسية والبروتوكولية المحيطة بالرسميين.
ولا أقصد بطبيعة الحال توجيه انتقادات، أو التقليل من الجهد المبذول لاستضافة فعاليات هذا المنتدى المهم وتنظيمها وإنجاحها، ولاسيما من جانب الإخوة الأشقاء في مملكة البحرين، الذين وفَّروا كل السبل والظروف اللازمة لإنجاح المؤتمر، ولكنَّ متابعتي فعاليات هذا المؤتمر، الذي يبدو واضحاً أنه تمت إدارته بشكل كامل من جانب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، أثارت حفيظتي كباحث ومفكر خليجي وعربي؛ فهل يعقل، ونحن في القرن الحادي والعشرين، وبعد أن وصلت دولنا الخليجية والعربية إلى هذا المستوى من التطور الحضاري والمعرفي، أن ننتظر البريطانيين، أو أي مركز فكري غربي؛ لكي يحددوا لنا أولوية قضايانا واهتماماتنا ومصادر التهديد والتحديات التي تواجهنا وكيفية مواجهتها؟ وهل يمكن أن نعود إلى القرن التاسع عشر، حينما كنا نخضع لهيمنة قوى استعمارية؛ لنعود ونترك هذه القوى تتحكم في أمورنا من جديد في القرن الحادي والعشرين، ونحن نملك كل وسائل المعرفة والتقدم والعلم التي تؤهلنا بجدارة ليس لمنافسة هذه القوى في المستقبل فقط، وإنما لتحقيق التفوق عليها أيضاً؟
مؤسسات فكرية وطنية
وما أود تأكيده في النهاية هو أنني أتحدث من منطلق بحثي وعلمي بحت؛ بحكم خلفيتي كباحث متخصّص بالعلوم السياسية، وبحكم درايتي بكيفية عمل مراكز الفكر والدراسات الاستراتيجية، وحرصي على المصالح الوطنية لدولنا الخليجية والعربية؛ فمناقشة القضايا التي تخص منطقتنا، والبحث في أفضل السبل لتحقيق أمنها واستقرارها وتقدُّم دولها، يجب أن يكونا من خلال مؤسسات فكرية وطنية ومفكرين وطنيين منشغلين بهموم أوطانهم ومستقبلها؛ وهذا لا يعني أيضاً دعوة إلى عدم التعاون البحثي وتبادل الخبراء والمعارف مع مؤسسات الفكر الأجنبية والعالمية؛ فهذا مطلوب ومهم، ولكن يجب ألا نترك لهذه المؤسسات وحدها أن تحدد لنا مصالحنا وسياساتنا كما كان الوضع في القرن التاسع عشر، وإنما يجب أن يكون ذلك بتخطيط أبناء منطقتنا وإدارتهم وإشرافهم؛ لأنهم أدرى بشعابها وبمصالحها.
*كاتب إماراتي