يعود الاتحاد الأفريقي، بعد ستين عاماً على تأسيسه تحت اسم «منظمة الوحدة الأفريقية»، إلى التذكير بأهمية الثقافة في بناء الوحدة الأفريقية، وذلك تطلعاً إلى تجسيد الاستقلال الوطني لدوّله عبر برامج تنموية جديدة، وأملا في استقرار تقوده زعامات مثقفة. ومهما كانت الاختلافات قائمة بين هذه الزعامات، من زنوجية أو عروبية أو أمازيغية، فقد جمعتهم الرغبة في إقامة صرح وحدوي صلب سمَّوه فيما بعد «الاتحاد الأفريقي».
كانت القارة تعانى من انقسامات قبلية وإثنية، ثم جاء الاستعمار ليقنن هذه الانقسامات، سعياً لإثارة الفتن والصراعات المباشرة، وانطلقت التبريرات التي غذّتها أجندات أجنبية واردة وحسابات مصلحية داخلية ضيقة، فبدت القارة أشتاتاً ممزقة لم يكن لينقذها من نفسها أحياناً إلا قوة بعض الزعامات وأصحاب الأفكار الكبرى.
لكن تيار الوحدة الأفريقية أصبح منذ السبعينيات عرضةً لأزمات متنوعة، وبدأت المجتمعات الصغرى في القارة تبحث لها عن تحالفات إقليمية مع مثيلاتها الصغرى أيضاً، وبدا وكأن القارة يعاد تشكيلها، سياسياً وثقافياً، في سياق جديد - قديم مختلف.
لقد أخذ كل «زعيم» فئوي يجمع أتباعه بسرعة قبل أن يتحالف الصغار التابعين له، في انقسام ثقافي وإثني متتابع. والآن هناك مجموعة الفرانكفون الداعمة للغة الفرنسية وثقافتها، وهناك مجموعة الإنجلوفون الداعمة هي الأخرى للغة الإنجليزية وثقافتها، إلى جانب ثالثة هي «الليزوفونية» في المستعمرات البرتغالية السابقة.
وبالطبع فقد استمتعت القوى الكبرى بهذه الانقسامات الأفريقية منذ تكرست مع الاستعمار، إلى أن قامت منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، كتجسيد لوحدة القارة على أساس ثقافي بالدرجة الأولى، وإن حافظ الجميع على علاقته بثقافة المستعمر السابق.
وها هو الاتحاد الأفريقي يعيد بناء نفسه مجدداً ويؤكد في دورته الأخيرة (2019) على دور الثقافة في بنية الاتحاد، وعلى أن التنوع الثقافي جزء من عملية البناء الأفريقي.
ولم تنحصر المؤثرات الثقافية في الفرانكفونية أو الليزوفونية أو الإنجلوفونية.. وإنما هناك أيضاً قوى ثقافية أفريقية كبيرة ومتنوعة. فهناك لغة «الهوسا» التي يزيد عدد المتحدثين بها على 25 مليون نسمة، واللغات النيجيرية (مثل الإيبو واليوربا)، ولغات أخرى في غرب القارة مثل الفولان والولوف.. وكلها تكتب بالحرف العربي واللاتيني على السواء.
إن إقرار الاتحاد الأفريقي بقوة اللغات الأفريقية وبتنوع خصوصياتها، أصبح عنصر قوة للاتحاد، وإن كانت القوى الأجنبية تضع العقبات أمام الروح الاستقلالية الجديدة التي بدأ الاتحاد الأفريقي يمارسها.
إن اعتراف الاتحاد بالتنوع اللغوي للقارة وتأكيده على وحدتها الثقافية، سوف يعطي قوة ذاتية لكثير من اللغات ذات الفضاءات الصغيرة. لكن إقرار المبدأ من جانب القيادة السياسية والاجتماعية للاتحاد، قد يعطي المبدأ نفسه قوة أمام الفرانكفونية والإنجلوفونية وغيرهما، ويمنح طاقة جديدة لقوى التنوع المحدودة كي تخرج إلى الوجود. فلغة السوتو ?في ?الجنوب ?الأفريقي ?لم ?تكن ?ذات ?اسم ?في ?التنوع ?الثقافي ?الأفريقي ?المعروف، ?مع ?أنها ?ذات ?شأن ?في ?فضاء ?واسع ?من ?منطقة ?الجنوب ?الأفريقي، ?وكذلك ?لغة «?اللنجا» ?في ?وسط ?القارة، ?فهي أيضاً لها ?شأن ?قد ?لا ?يقدره ?الكثيرون، ?ناهيك ?عن لغة ?الأورومو وغيرها.. ?فكل هذه اللغات ?ستكتسب ?قوة ?جديدة ?باندراجها ?تحت ?قرار ?الاتحاد ?الأفريقي.
بقيت مسألة هامة في الموضوع، وهي الترجمة بين هذه اللغات وبينها وبين اللغات الأخرى. وقد لاحظتُ جهداً في الترجمة بين اللغات الأفريقية واللغات الأوروبية، لكني لم ألاحظ مثله مع اللغة العربية. وقد لاحظت إلحاح البعض من أهل الثقافات الأفريقية على الدوائر الثقافية العربية كي تنجز أو تساهم في إنجاز مشروعات كبرى للترجمة مع اللغات الأفريقية، وهو جهد لا ينبغي لنا (نحن العرب) أن ننصرف عنه غير واعين بأهميته الثقافية والحضارية والاستراتيجية الفائقة. ولا شك أنه باستطاعة الإمكانيات العربية أن تكون عوناً كبيراً لمثل هذه المشروعات الكبيرة التي أصبح الاتحاد الأفريقي مؤهلاً لدفعها قدماً.
*مدير مركز البحوث العربية والأفريقية -القاهرة