ليس الغرض هنا أن نستعرض تاريخ الفلسفة في السينما، وإنما سنتحدث عن فيلسوف واحد تحوّل إلى مخرج سينمائي، إنه تيرينس ماليك. و«ماليك» فيلسوف محترف وقد درّس الفلسفة ونشر ترجمته لكتاب مارتن هايدغر (The Essence of Reasons). النقاد يتعاملون مع أعماله الفنية على أساس كونها تعطي دروساً فلسفية. ولو استعرضنا فيلماً واحداً، لعله أقوى أفلامه، وهو «الخط الأحمر الرفيع»، أي الخط الفاصل بين العقل والجنون، فسنجد أن تصويره الرائع للطبيعة، والأصوات الشعرية، والتأمل الفلسفي، من خلال الأسئلة السقراطية التي بثّها ككاتب لسيناريو الفيلم، لم تكن موجودة في النص الأصلي لكتاب جايمس جونز.. يؤكد ما ذهب إليه النقاد من أن «ماليك» فيلسوف ملتزم.
سينما «ماليك» هي سينما أخلاقية، بمعنى أنه يسلط الضوء من خلالها على القضايا الأخلاقية ككل فلاسفة الأخلاق. وتشكل القضايا الوجودية والميتافيزيقية والدينية الإطار الذي يدور داخله، رغم أنه لا يحصر نفسه في مذهب أو مدرسة بعينها. وبدلاً من ذلك، يستعرض تجارب إنسانية محاصرة بالقلق والشك والتساؤل والخوف، فيضعها على كرسي الاستجواب، في مشاركة جمالية وتأمل شعري بديع. الفلاسفة الذين تظهر قسماتهم أكثر من غيرهم في سينما ماليك هم الوجوديون، مثل هايدغر ونتشه وكيركغور، ومن ورائهم الظاهراتية وعلم النفس الأخلاقي. يناقش ماليك مشكلة العدمية وفقدان الثقة بالأنماط السائدة من القيمة والمعنى. وتدور تساؤلاته حول إمكانية التحول الأخلاقي، من التحول الذاتي في علاقات الإنسان مع الآخرين إلى التحول الثقافي عبر مواقفنا نحو الطبيعة والعالم. إنها قضية ماليك الكبرى، أي تحقيق التحوّل الروحي والأخلاقي، وليست القضية جمالية مجردة. وفوق هذا هي محاولة لإشراك المشاهد في استشعار المشكلة المطروحة وجعل السينما فلسفية.
في «الخط الأحمر الرفيع» نظرة عميقة إلى الحرب، لا على طريقة أفلام الحرب المعتادة، بل عبر أسئلة ستظل بلا أجوبة عن دور الإنسان في العالم. يبدأ الفيلم بمشهد تمساح ضخم يزحف من اليابسة لينغمس في النهر، آلة قتل مخيفة تشير إلى الشر الكامن في هذا العالم. وسيعود التمساح ليظهر في الفيلم كضحية بعد أن تم اصطياده، ليبرز السؤال: لماذا تتقاتل الطبيعة مع نفسها؟
لقد أغضب ماليك الأميركيين الذي يعتبرون معركة (Guadalcanal) نصراً مؤزراً، لأنه قدمها على أنها هزيمة لجميع الأطراف. هذا موقفه ليس من هذه المعركة فقط، بل من كل حرب. موسيقى العبقري هانز زيمر، قد سلطت الضوء بشكل أكبر على مشاعر القهر التي شعر بها اليابانيون جراء تلك المعركة، الأمر الذي جعل المشاهد يتعاطف معهم. بعد المعركة، يظهر نصف وجه ياباني فيتخيل الجندي الأميركي أنه سمعه يقول: «هل أنت خيّر وطيب؟ هل يحبك الجميع؟ إذن، فاعلم أنني كنت كذلك».
وفي نهاية الفيلم، هناك مشهد لعصفور صغير يلفظ أنفاسه الأخيرة، ليقول إن الحرب جريمة ضد الطبيعة، قبل أن تكون جريمة ضد الإنسانية.
المدارس الفلسفية كلها موجودة في الشخصيات، هناك المثالي الحالم الذي يعيش في عالم خارج الحس، وهناك الواقعي الذي يرى أن الإنسان لا شيء، وأنه لا عالم سوى هذا العالم بكل بشاعته، وأن الإنسان ليس إلا أداة من أدوات الطبيعة المتصارعة مع ذاتها، أداة خاضعة للظروف السياسية المحيطة، لكنه لا يكف عن إطلاق التعليقات الساخرة حتى في لحظات الموت، ولعل أقساها عندما يموت الجندي الحالم (جيم كافيتزل) بعد كل أحاديثه عن شعلة الحب والحياة التي تسكن قلبه، يقف الواقعي البراغماتي (شين بين) عند قبره متسائلاً بسخرية يخنقها البكاء: كيف هي شعلتك الآن؟
*كاتب سعودي