في مطلع القرن العشرين، كانت تسميات المناطق ما تزال جغرافية، إنما المركز هو أوروبا وبُعْد تلك المناطق أو قُربها منها. لذا انقسم المشرق تلقائياً إلى ثلاث مناطق: الشرق الأقصى، الشرق الأدنى، والشرق الأوسط. وفيما تميز الشرق الأقصى، وما كان في موقعه اشتباه، حصل الاشتباه بين الشرقين الأدنى والأوسط. فالإذاعة البريطانية القديمة كانت تؤْثر تسمية الأدنى للمنطقتين، وضمن الأدنى إيران وتركيا وما كان يُعرف بمنطقة الهلال الخصيب. أما الاستراتيجيون الأميركيون فكانوا يستعملون الشرق الأوسط، الذي لا يشمل تركيا وإيران. وبعد الحرب العالمية الثانية صار هناك صراع مصطلحات استراتيجية، وذلك بسبب ظهور المشروع العربي الذي هدف لتسمية المنطقة وإعطائها هويتها انطلاقاً من سكانها وهم في معظمهم عرب. لذا، وخلال ثلاثة عقودٍ أو أربعة كان هناك إصرارٌ على «الشرق الأوسط» من الأطراف التي وضعت فيه إسرائيل، وإصرارٌ عربيُّ على مصطلح «الوطن العربي أو «المنطقة العربية». وقد تجنب القوميون العرب آنذاك حتى مصطلح المشرق العربي، خشية إخراج مصر منه في الوعي ووضعها مع المجموعة الأفريقية.
وكان المقصود من مصطلح الشرق الأوسط تجنب التسميات الهوياتية والاستراتيجية، ومع ظهور الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بظهور النفط، إضافةً للمعابر الاستراتيجية، البرية والبحرية والجوية، ثم اغتصاب الكيان الصهيوني لفلسطين، ما عاد هناك مصلحةٌ لأكثر الأطراف في التسمية العربية. وهذا على أنه رغم التغييرات والمتغيرات الكثيرة، فقد ظلت هناك حقيقة ساطعة أن معظم السكان بالمنطقة عرب، وأنّ اللسان العربي هو السائد.
هناك أربعة عوامل أو متغيرات رجّحت مصطلح «الشرق الأوسط» على حساب «الوطن العربي» (أو المنطقة العربية): ظهور النفط، وتأسيس إسرائيل، والأهمية التي أُعطيت للممرات بعد الحرب الثانية، أما العامل الرابع فصنعته أحداث ما بعد السبعينيات. فقد اعتقد العرب بعد ظهور إسرائيل، والصراع على المنطقة في الحرب الباردة، أنه من المصلحة للجميع إبراز المشتركات مع الجوار العربي، باعتبار تحرر إيران بالثورة من التبعية للولايات المتحدة، والرغبة التركية منذ الثمانينيات في الاتجاه نحو المشرق والخليج العربيين بدلاً من الاتحاد الأوروبي.
على أن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر كما يقال. فالدول الكبرى لم تغب عن المنطقة بعد انقضاء الحرب الباردة، والجوار صار يميل أكثر للتدخل وليس لإنشاء صيغة أو صيغ للتعاوُن ورعاية وتنمية المصالح المشتركة. وما اتخذت التدخلات صيغةً استراتيجية فقط شأنها زمن الحرب الباردة، بل خالطتها المذهبيات والصحويات والعودة إلى التحالف مع الدول الكبرى شأن الزمن الاستعماري.
لقد ظهر ذلك كله، وبأبعاده المتعددة بعد ما سُمي «الربيع العربي». إذ ظهر ما صار يُعرف أيضاً بالإسلام السياسي في مواجهة الدولة الوطنية العربية. وقد استعان قسمٌ من هذا الإسلام الجديد بإيران بعد ثورتها، والتي بادلته الرغبة نفسها. كما استعان القسم الآخر بتركيا. وقد أحدث ذلك تشرذمات مذهبية وسياسية داخل البلدان العربية. لكنّ الأمر ما اقتصر على ذلك –إذ إن الدول الإقليمية المتدخلة أيضاً احتاجت إلى مراجع بين الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. لذلك صارت التدخلات ذات ثلاث طبقات: دواخل المجتمعات، والمراجع الإقليمية المختلفة لتلك الدواخل، ثم المراجع الدولية التي تُطِلُّ على الأمرين: المحلي والإقليمي.
لقد انقضت على هذه التدخلات بأنواعها الثلاثة عقود. وعند كل حركةٍ قويةٍ في أحد هذه المستويات تحدث هزة. ولدينا اليوم أزمتان ناجمتان عن التدخلات في العالم العربي أو الشرق الأوسط أو ما شئتم: الأزمة الأميركية الإيرانية نتيجة التنافس في العراق، والأزمة الليبية نتيجة التدخل التركي في النزاع الداخلي هناك بالوقوف مع طرفٍ ضد آخر.
وهناك طرف عربي قوي يقول: ليخرج الجميع ليعود السلام والسلامة! وهذه دعوةٌ لا يمكن إحقاقها إلا بأحد مدخلين: مدخل الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان. ومدخل الاتفاقات بمجلس الأمن لتجنب النزاعات والحروب وسفك الدماء. وكلا الأمرين غير متوافر الآن.
الصراع في الشرق الأوسط أو عليه هو صراع على العرب من جانب القوى الدولية والإقليمية. وما لم يَعُد العرب لأداء دورهم، فسيظل الصراع مستمراً.
أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت