طرح اللقاء الخماسي الذي جرى في القاهرة قبل يومين، والذي جمع وزراء خارجية مصر وفرنسا واليونان وقبرص علامة استفهام مهمة وجذرية :«هل بدأ الاتحاد الأوروبي يصحو على الكارثة التي تحدث في ليبيا بين الليبيين أنفسهم بشكل عام بداية الأمر، وهل تنبهوا للمخاطر الهائلة المحدقة بهم من جراء وجود تركيا على الجانب الآخر من المتوسط ، سواء كان ذلك الوجود بشكل رسمي أي من خلال قوات تركية بشكل مباشر، أو عبر إرسال مقاتلين إرهابيين من «الدواعش» و«القاعدة» وغيرهم؟ لا يمكن الجواب في واقع الأمر في الوقت الحاضر إلا من خلال مراجعة أوراق الماضي، فقد كان الأوروبيون أداة رئيسة في إسقاط نظام القذافي، وعملت فرنسا كرأس حربة لـ«الناتو» بنوع خاص، والجميع يتذكر أن ما جرى عام 2011 كان بمثابة إسقاط وهدم دولة، وليس إسقاط نظام سياسي، والفارق شاسع بين الأمرين، فإن تسقط نظاماً يعني أن تكون لديك الأدوات اللازمة لترتيب ما بعد ذلك، أي حيازة رؤية وأشخاص لإدارة البلاد.
غير أن ما حدث كان على العكس من ذلك تماماً سيما، وأن ليبيا افتقدت في واقع الأمر إلى وجود دولة المؤسسات وبدا وكأن هناك بالفعل من يسعى إلى تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، شرقاً وغرباً وجنوباً.
صمت الأوربيون طويلاً أمام الأوضاع المهترئة في ليبيا وتفكك النسيج الاجتماعي الليبي، والذي بلغ حد التناحر الداخلي، وباتت ليبيا طوال السنوات التسع الماضية أقرب ما تكون إلى بلد ينتحر من الداخل، عبر انقسام الإرادات.
أما الأخطر والذي كان يجري أمام أعين الأوروبيين صباح مساء كل يوم فهو تحول ليبيا إلى حاضنة جديدة للإرهاب، وملاذ للإرهابيين من كل حدب وصوب، الأمر الذي قاد في نهاية المشهد إلى تفتق ذهن جماعة السراج إلى حيلة علها تقلب المشهد، من خلال الاتفاق سيئ السمعة مع أردوغان.
طوال تسع سنوات وقف الأوربيون أمام المشهد الليبي، ووراء الأكمة ما وراءها، فقد شاهدوا التشارع والتنازع يتعالى في أعلى عليين، ومع ذلك بدا وكأن صراع المصالح الأوروبية أهم من استنقاذ ليبيا مرة، وإلى الأبد من براثن الإرهاب والإرهابيين.
تاريخياً كانت ليبيا محط رحال الاستعمار الإيطالي، والذي أذاق شعبها المرارة، ولاحقاً لم تتجاوز وجهة النظر الإيطالية لليبيا كونها مصدر ثروات طبيعية كالغاز والنفط اللذين يعتمد عليهما الإيطاليون بنسبة 90% في تحريك مقدرات حياتهم إذ تخلو بلادهم منه في الحال، ولا يتوقع أحد أن تظهر اكتشافات للطاقة في إيطاليا.
طوال سنوات لم نر من إيطاليا وفرنسا سوى الصراع خلف الكواليس على من يستولي على أكبر قدر من العقود للنفط الليبي، ولهذا بدا وكأن هناك من يدعم حفتر من الفرنسيين، وهناك من يساند السراج من الإيطاليين، والهدف الرئيس ليس محبة وكرامة في هذا أو ذاك، بل مكايدة سياسية ومواجهة مسلحة تقود في نهاية الأمر إلى تفكيك وتفتيت ليبيا، وإدخالها في مرحلة القابلية للاستعمار الجديد من خلال استقطاب قوات أجنبية في محاولة لقلب الموازين، وتغيير الأوضاع وتبديل الطباع.
في هذا السياق كان سعي السراج وجماعته التي لم تعد حكومة رسمية بعد أن تم عزلها من قبل مجلس النواب الليبي من جهة، وتوجيه تهم الخيانة العظمى له ولجماعته من جهة ثانية ، نقول كان سعيه لفتح ثغرة في الجسد الليبي لإدخال أردوغان الحالم بالعثمانية الثانية مرة جديدة، والذي تلقف اتفاقية غير قانونية وغير مبررة ولا يوجد ما يدعمها في القانون الدولي بحال من الأحوال، كي تجد تركيا منفذاً لها إلى حوض البحر الأبيض المتوسط .السؤال الحيوي والمصيري : هل الأتراك عامة وأردوغان خاصة مهمومون ومحمومون بليبيا والليبيين، وهدفهم الحقيقي هو جعل ليبيا برداً وسلاماً على الليبيين؟
لا يتسع المسطح المتاح للكتابة للإشارة إلى المخازي التاريخية التي ارتكبها الأتراك في حق الشعب الليبي طوال عقود الاستعمار التركي البغيض للأراضي الليبية، لكن يكفي فقط أن نشير إلى مذبحة الجوازي التي قتل فيها الأتراك في برقة شرق ليبيا قبل مائتي سنة وفي يوم واحد عشرة آلاف ليبي.
السلطان أردوغان يداه وأجداده من قبل ملوثة بالدم الليبي، وجل هم الرجل هو الحصول على جزء وافر من كعكة الغاز في المتوسط وتحديداً في قبرص، ولهذا فليس من طريق أمامه سوى تهديد أوروبا بنقل الإرهاب إلى الجانب الآخر من المتوسط ، إذا ما أصرت على رفضها تنقيبه عن الغاز في المياه الإقليمية لدولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
هل جاء تحرك الاتحاد الأوروبي برفض مشروعات تركيا في ليبيا متأخراً؟
ليس فقط متأخراً، بل براجماتي ذرائعي إلى أبعد حد ومد، ومع ذلك فربما تكون الحاجة الآن إلى غوث ونجدة ليبيا والليبيين، ولاحقاً ربما يتوجب على الأوروبيين مراجعة أوراقهم تجاه العثمانيين الجدد والقدامى.
الخلاصة ..أن تصحو متأخراً خير من ألا تصحو أبداً.