لا يؤسس ابن رشد الفقه فقط على العقل والطبيعة، أي القياس والتجربة، بل أيضاً على الأخلاق والحاسة الخلقية والذوق البديهي، فالطهارة المقصود بها النظافة، وهي من محاسن الأخلاق. والأحكام الشرعية قسمان: قسم يقضي به السلطان، ويعادل السياسة الشرعية، وهو أقرب إلى الفرض، وقسم لا يقضي به السلطان، أي الحياة الفردية، وهو أقرب إلى المندوب، الأول قانون موضوعي، والثاني قانون ذاتي، ويضع ابن رشد نسقاً أخلاقياً خماسياً يستنبط منه الفقه كلَّه، ويقوم على خمس فضائل: الأولى الشكر (ومنه تُستنبط العبادات)، والثانية العفة (ومنها تُستنبط آداب الطعام والشراب والمناكح)، والثالثة العدل في الأبدان والأموال (وعليه يقوم فقه الحرب والقصاص والعقوبات)، والرابعة السخاء (وعليه تقوم الزكاة والصدقات)، والخامسة الشجاعة (وعليها تقوم الرئاسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وفي كتابه «مناهج الأدلة»، انتقد ابن رشد أدلة الأشاعرة، لأنها تسيء استخدام العقل لصالح الإيمان، وتستخدم أقاويل خطبية أو جدلية وليست برهانية، مثل أدلتهم على وجود الله (ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً)، وبين تأويلاتهم الخاطئة إبطال السببية، وخلق الأفعال، ووقوعهم في التشبيه، ودفاعهم عن المتغلب، فهم ليسوا متكلمين يجعلون النقل أساس العقل، ولا فلاسفة يجعلون العقل أساس النقل، وإنما وقفوا بين الاثنين، فلم يحسنوا فهم النقل ولا استخدام العقل!
يرفض ابن رشد دليل أهل الظاهر، وهم الحشوية، وهو دليل السمع لا العقل، للبرهنة على وجود الله، وينقد دليلي الأشعرية (دليل الجوهر والفرد، ودليل الممكن والواجب)، ويضيف دليلين آخرين أقرب إلى العقل الصريح؛ دليل العناية ودليل الاختراع، وينقد دليل الأشعرية على وحدانية الله (دليل التمانع)، لأنه منظور في الطبع، ولا يحتاج إلى حساب الاحتمالات التي تتعارض مع مبدأ التنزيه.
وفي كتابه «تهافت التهافت»، فإن العقل عند الفلاسفة لا يعارض الإيمان، بل يقدم كل الاحتمالات العقلية لفهم قضايا الإيمان، فقِدَم العالم مجرد احتمال نظري يدعمه العقل، إذ كان العالم في العلم الإلهي قبل أن يخلق، والعلم الإلهي قديم، ولما كان العلم أحد مظاهر الوجود، فالعالم قديم (كما قال الفلاسفة).
وقد وضع ابن رشد «قانون التأويل»، كما فعل الغزالي قبله، لدرء تعارض العقل والنقل، فالمعاني الموجودة تنقسم قسمين: الأول أن يكون المعنى المصرح به في الشرع موجوداً في العقل، وهو ما لا تأويل فيه، والثاني أن يكون على جهة التمثيل، وهو المجاز الذي يحتمل التأويل، وهذا بدوره على أربعة أنواع: الأول أن يكون الممثول بعيداً عن المثل، لا يقدر عليه إلا الخاصة، والثاني أن يكون قريباً للأفهام بحيث يجوز فيه التأويل، والثالث أن يكون قريباً ولكن المثل بعيد لتحريك النفوس وهو خاضع للتأويل، والرابع أن يكون المثال قريباً والممثول بعيداً، والأفضل في هذه الحالة عدم التأويل لعدم البعد عن أفهام الجمهور.
إن ابن رشد في شروحه وتلخيصاته وجوامعه على أرسطو وجالينوس، يعرض الوافد اليوناني على العقل، فما اتفق معه قبله، وما اختلف معه رفضه، كما يعرضه على التجربة، فما اتفق معها قبله وأقامه على البرهان، وما اختلف معها أصلحه، وكما قال، فالحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له، وهو موقف إسلامي أصيل نابع من القرآن الكريم والسنّة المطهرة، فقد ذُكر لفظ «العقل» في القرآن تسعاً وأربعين مرة، كلها في صيغ فعلية وليست اسمية، مما يدل على أن العقل هو عملية التعقل، وليس جوهراً ثابتاً خارج الزمان والمكان، وأكثرها موجه إلى المخاطب: «تعقلون»، ?ثم ?إلى ?الغائب ?«يعقلون»، ?ومعظمها ?في ?صيغة ?تعجب ?واستنكار: ?«أفلا ?تعقلون»، ?أو ?تمنٍ: ?«لعلكم ?تعقلون»، ?أو ?شرط: ?«إن ?كنتم ?تعقلون»، ?وموضوع ?العقل ?هو ?كلام ?الله ?ثم ?الطبيعة ?والآخرة، ?ثم ?الواقع ?والناس، ?ثم ?الأفعال ?والأمثال ?والوصايا.
وفي الحديث، ورد ذكر العقل أكثر من مائة مرة، عقل الإنسان والمسلم والمؤمن والذمي والمرأة والطفل والبالغ.. أي العقل الإنساني بكافة تجلياته، والعقل هو أول ما خلق الله في الحديث القدسي المشهور: «أول ما خلق الله خلق العقل».
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة