لبنان هو أول نماذج نظم الحكم العربية التي أخذت بصيغة المحاصصة الطائفية منذ استقلاله، وعبر الزمن أصبح للطائفية جذورها الراسخة المتمثلة في مصالح زعماء الطوائف وتبعية بعضهم للخارج. ورغم أن الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) دامت قرابة عقد ونصف من الزمان، وكشفت الطائفية في أسوأ صورها، بحيث إن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب تحدث عن إلغائها، إلا أن الأمور بعد كل هذه الخبرة الأليمة عادت إلى سيرتها الأولى، ويوماً بعد آخر كان عجز نظام المحاصصة الطائفية اللبناني عن مواجهة المشكلات المزمنة في لبنان، وعلى رأسها المشكلة الاقتصادية وتفاقم الفساد.. يتكشف. ومع ذلك فقد صمد لبنان في موجة الحراكات الشعبية الأولى في بداية العقد الحالي، غير أنه لحق بالثانية التي بدأت في ديسمبر الماضي وشملت السودان أولاً ثم لحقت به الجزائر في فبراير 2019
وفي أكتوبر الماضي لحق العراق ولبنان بالحراك الجديد، غير أن هاتين الحالتين الأخيرتين كانت لهما دلالة خاصة، وهي كونهما أكثر حالات النظم العربية التي تعكس مبدأ المحاصصة الطائفية ومن ثم فقد مثّلتا بدرجة أو بأخرى إعلان إفلاس للطائفية، بمعنى عجز النظم التي أُسسَت عليها عن حل المشكلات الحياتية الرئيسية للمواطنين وعن التصدي للفساد المستشري. وكانت الحالة اللبنانية أكثر وضوحاً دون شك، على أساس أن هناك من المحللين من ادعى أن انتفاضة العراق انتفاضة شيعية، ورغم أن هذا لا يدحض فكرة إفلاس الطائفية، لأن معناه إن صح أن شيعة العراق لا يرضون بنظام لهم فيه اليد العليا، إلا أنه أصلاً لم يكن صحيح لأن سنّة العراق شاركوا في الانتفاضة الشعبية وتضامنوا مع مطالبها. أما في الحالة اللبنانية فكانت الأمور واضحة من الوهلة الأولى، حيث رفع المحتجون شعار «كلكن يعني كلكن»، وهو ما يعني أن الانتفاضة الشعبية ضد جميع زعماء الطوائف وأنه لا قداسة لأحد منهم مهما كانت الشعارات التي يتستّر خلفها.
ولأن الأمر جد خطير بالنسبة لأصحاب المصالح الراسخة في استمرار الطائفية أساساً لنظام الحكم، فقد تحرك هؤلاء باستماتة لإجهاض الحراك المضاد للطائفية، ولوحظ أن زعماء الطوائف والفصائل السياسية الأضعف إما أنهم تماهوا مع الحراك ورفعوا شعاراته أو على الأقل لم يدينوه. أما زعماء الطوائف والقوى السياسية صاحبة نصيب الأسد في الكعكة اللبنانية، فكان واضحاً أنهم ضد الحراك مهما ادعوا عكس ذلك، غير أن أساليبهم في هذا الحراك المضاد قد اختلفت بمرور الوقت، ففي البداية كان هناك نوع من الغزل حيال الحراك ومطالبه وادعاء تبنيها على أساس أنهم لا يخشون شعارات كمحاربة الفساد أو استرداد الأموال المنهوبة، مع القول بأن هناك جهات خارجية تقف خلف بعض فصائل الحراك وتمولها وتحركها، كذلك كان هناك نوع من النظرة «الوظيفية» للحراك، بمعنى محاولة الالتفاف على المطلب الرئيسي بإلغاء الطائفية، عبر تلبية بعض المطالب الفرعية للحراك، كمحاسبة الفاسدين واقتراح آليات لذلك وتقديم اقتراحات «فنية» للخروج من المأزق الاقتصادي بتطوير علاقات لبنان الاقتصادية الدولية.. مع التحذير من أن رفض هذه الأفكار والآليات من شأنه أن يصل بلبنان إلى الفوضى! ومن الواضح أن الآليات السابقة للالتفاف على الحراك، تنتمي كلها لأساليب «القوة الناعمة»، غير أن فشلها في تحقيق أهدافها جعل القوى صاحبة المصلحة في استمرار الوضع الراهن وتكريسه تلجأ إلى «القوة الخشنة» بالهجوم على المحتجين والمعتصمين وترويعهم.
والواقع أن إفلاس الطائفية الذي أظهره الحراك الأخير في لبنان والعراق لا يعني سقوطها بل مجرد عجزها، أما سقوطها فهو عملية تاريخية لابد أن تستغرق وقتاً بقدر تجذر الطائفية في الواقع السياسي اللبناني، وسوف تكون المعركة ضد الطائفية طويلة وممتدة، وستستخدم القوى صاحبة المصلحة في استمرار النظام الطائفي أشرس الأسلحة، وتلجأ ما استطاعت إلى القوى الخارجية التي تدعمها، لذا فمن الأهمية بمكان أن تحافظ القوى المضادة للطائفية على الطابع السلمي للحراك، لأنها ستخسر المعركة حال تحوله إلى حالة عنيفة لا تملك أسلحتها. وفي كل الأحوال فإن الإنجاز الأهم للحراك هو إعلان إفلاس الطائفية، أما إسقاطها فإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة