عُقدت في الأسبوع الماضي قمة الذكرى السبعين لتأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أجواء تعطي الانطباع بأنه يمر بمرحلة خريف العمر وليس بمزيد من النضج، والمنظمات كالكائنات الحية تمر بأطوار متعاقبة، ميلاداً ونضجاً وشيخوخة، وصولاً إلى نهاية العمر. وكما يتأثر البشر في مراحل عمرهم المختلفة بظروفهم الذاتية ومحيطهم الخارجي، فإن المنظمات كذلك. وعلى سبيل المثال فإن نشوب الحرب العالمية الثانية كان نقطة النهاية لعصبة الأمم التي جسدت نتائج الحرب الأولى وبداية لمنظمة الأمم المتحدة، ويتوقف بقاء المنظمات على قدرتها على التكيف مع الظروف الجديدة. وقد نشأ حلف الأطلسي عام 1949 في ظروف نتائج الحرب العالمية الثانية وما أفضت إليه من حرب باردة بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وعبر العقود واجه الحلف تحديات حقيقية، وقد لا ينتبه كثيرون إلى أن التحدي الأول للحلف جاء من منطقتنا حين حاولت الولايات المتحدة ربطها بمنظومة التحالف الغربي عن طريق عقد «حلف بغداد» عام 1955 بين العراق وتركيا (العضو في الأطلسي)، غير أن المنظومة العربية بالكامل تصدت له وأفشلت المشروع. ثم جاء التحدي الثاني من أوروبا حين جمدت فرنسا الديغولية (عام 1966) عضويتها العسكرية في الحلف، ومع ذلك صمد الحلف بل انتصر في صراعه مع المعسكر الشيوعي بتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، وبدا بعدها أن الحلف في طريقه لأن يصبح آلية «أممية» لتحقيق الأمن الدولي كما ظهر في عملية الحلف في حرب كوسوفو (1998-1999)، واتسق مع هذا التطور توسع عضوية الحلف بحيث أصبح يضم العديد من الأعضاء السابقين لحلف وارسو، وبدا وكأن هذا التطور هو الترجمة الاستراتيجية لفكرة «نهاية التاريخ».
وكما تهاوت فكرة نهاية التاريخ بالتدريج فإن المستقبل الذي بدا مزدهراً للناتو بعد نهاية الحرب الباردة بدأ يتعثر أمام بعض التطورات الدولية المهمة، حيث واجه الحلف في المحصلة تحديات حقيقية، فمن ناحية بدأت روسيا تعود بقوة إلى ساحة التأثير الدولي مع مطلع القرن الحالي في ظل قيادة بوتين الذي أعاد بناء قوتها العسكرية كأقوى ما تكون وأقدم على عدد من التصرفات الجريئة في أزمات أوكرانيا وجورجيا وسوريا.. مما جعل روسيا فاعلاً أساسياً في هذه الساحات. ومن ناحية ثانية تجاوز صعود الصين الصعيد الاقتصادي إلى الصعيد العسكري الاستراتيجي، وانعكس هذا على سلوكها في الأزمات ذات الصلة بمصالحها الحيوية كأزمة بحر الصين الجنوبي، وباتت على هذا النحو تمثل هاجساً أمنياً جديداً وحقيقياً للحلف. ثم جاء التحدي الجديد من داخل الحلف بوصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية وانتقاداته لسلوك الدول الأوروبية الأعضاء من منظور ضآلة مساهماتها المالية في ميزانية الحلف، وتلميحاته المتكررة إلى أنه لا دفاع دون مساهمات مالية. وقد أدى مسلك ترامب هذا إلى إعطاء دفعة للخيار الأوروبي الدفاعي رغم كل صعوباته، وهو خيار من شأن نجاحه أن يقوض فكرة الحلف أصلاً. ومثلت السياسة التركية تحدياً آخر للحلف يعود جزء منه إلى السياسة الأميركية التي رفضت تزويد تركيا بصواريخ باتريوت فلجأت أنقرة إلى روسيا لشراء منظومة الصواريخ الروسية المتقدمة (اس 400) في واقعة غير مسبوقة في حلف يفترض أن تكون روسيا عدوه الرئيسي، ويعود جزؤه الثاني إلى السياسة التركية العدوانية تجاه سوريا والاعتراض الواسع في أوساط الحلف على العملية العسكرية الأخيرة ضد الأكراد. وفي سياق هذا الاعتراض جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي عن «الموت السريري» للحلف وغياب الرؤية الاستراتيجية المشتركة لأعضائه سواء بسبب الانسحاب الأميركي من سوريا أو السلوك التركي تجاهها.
وهكذا عُقدت قمة السبعين وسط هذه التحديات الكبرى التي تم تبادل تصريحات فظة فيها بين ترامب وماكرون وبين الأخير وأردوغان الذي أضاف تهديده بعرقلة خطط الحلف الدفاعية عن دول البلطيق وبولندا ما لم يؤيده في حربه على الأكراد.. وهدد هذا كله بإفشال القمة، غير أنها وإن تجنبت الانهيار وأكدت العلاقة الأميركية الأوروبية ومبدأ الدفاع المشترك، وتحدثت عن تقدم في مسألة التمويل وعن الحاجة للتعامل مع الفرص والتحديات التي يمثلها نفوذ الصين المتنامي، فإن هذا لا يعني بحال أن «خريف الأطلسي» سوف يكون خريفاً آمناً.
وكما تهاوت فكرة نهاية التاريخ بالتدريج فإن المستقبل الذي بدا مزدهراً للناتو بعد نهاية الحرب الباردة بدأ يتعثر أمام بعض التطورات الدولية المهمة، حيث واجه الحلف في المحصلة تحديات حقيقية، فمن ناحية بدأت روسيا تعود بقوة إلى ساحة التأثير الدولي مع مطلع القرن الحالي في ظل قيادة بوتين الذي أعاد بناء قوتها العسكرية كأقوى ما تكون وأقدم على عدد من التصرفات الجريئة في أزمات أوكرانيا وجورجيا وسوريا.. مما جعل روسيا فاعلاً أساسياً في هذه الساحات. ومن ناحية ثانية تجاوز صعود الصين الصعيد الاقتصادي إلى الصعيد العسكري الاستراتيجي، وانعكس هذا على سلوكها في الأزمات ذات الصلة بمصالحها الحيوية كأزمة بحر الصين الجنوبي، وباتت على هذا النحو تمثل هاجساً أمنياً جديداً وحقيقياً للحلف. ثم جاء التحدي الجديد من داخل الحلف بوصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية وانتقاداته لسلوك الدول الأوروبية الأعضاء من منظور ضآلة مساهماتها المالية في ميزانية الحلف، وتلميحاته المتكررة إلى أنه لا دفاع دون مساهمات مالية. وقد أدى مسلك ترامب هذا إلى إعطاء دفعة للخيار الأوروبي الدفاعي رغم كل صعوباته، وهو خيار من شأن نجاحه أن يقوض فكرة الحلف أصلاً. ومثلت السياسة التركية تحدياً آخر للحلف يعود جزء منه إلى السياسة الأميركية التي رفضت تزويد تركيا بصواريخ باتريوت فلجأت أنقرة إلى روسيا لشراء منظومة الصواريخ الروسية المتقدمة (اس 400) في واقعة غير مسبوقة في حلف يفترض أن تكون روسيا عدوه الرئيسي، ويعود جزؤه الثاني إلى السياسة التركية العدوانية تجاه سوريا والاعتراض الواسع في أوساط الحلف على العملية العسكرية الأخيرة ضد الأكراد. وفي سياق هذا الاعتراض جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي عن «الموت السريري» للحلف وغياب الرؤية الاستراتيجية المشتركة لأعضائه سواء بسبب الانسحاب الأميركي من سوريا أو السلوك التركي تجاهها.
وهكذا عُقدت قمة السبعين وسط هذه التحديات الكبرى التي تم تبادل تصريحات فظة فيها بين ترامب وماكرون وبين الأخير وأردوغان الذي أضاف تهديده بعرقلة خطط الحلف الدفاعية عن دول البلطيق وبولندا ما لم يؤيده في حربه على الأكراد.. وهدد هذا كله بإفشال القمة، غير أنها وإن تجنبت الانهيار وأكدت العلاقة الأميركية الأوروبية ومبدأ الدفاع المشترك، وتحدثت عن تقدم في مسألة التمويل وعن الحاجة للتعامل مع الفرص والتحديات التي يمثلها نفوذ الصين المتنامي، فإن هذا لا يعني بحال أن «خريف الأطلسي» سوف يكون خريفاً آمناً.