يورغن هابرماس هو دون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء، احتُفل مؤخراً على نطاق واسع في بلده ألمانيا وفي كل أوروبا ببلوغه سن التسعين، وقد أصدر بالمناسبة كتابه الوصية المتوج لمساره الفكري الاستثنائي، وهو عمل ضخم من مجلدين بعنوان «تاريخ الفلسفة»، ركز فيه على موضوع الحوار بين الفلسفة والدين الذي استأثر باهتمامه في السنوات الأخيرة. الكتاب الذي صدر بالألمانية يستعيد النقاش الثري الذي جمعه مع كبار اللاهوتيين الألمان، وبصفة خاصة جوزف راتزنجر (البابا بنديكت السادس عشر) وجوهان بابتست متز. وإذا كان الجدل بين هابرماس والبابا المستقيل معروفا ومنشورا، فإن نقاشه مع «متز» الذي هو من الوجوه الفلسفية اللاهوتية البارزة غير معروف.
وكان النقاش قد بدأ قبل ثلاثين سنة بنقد وجهه «متز» للفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية في تعاملها مع المسألة الدينية، معتبراً أن جذور قصور العقلانية الحديثة في مقاربة الموضوع الديني، راجعة إلى تأسيس اللاهوت المسيحي الوسيط على المفاهيم والمقولات الأنطولوجية اليونانية التي تختزل العقل في وظيفته المعرفية الإدراكية وفق معادلة شفافية الوجود أمام المفاهيم البرهانية والأدوات المنطقية. لقد اعتبر «متز» أن نظرية العقل التواصلي التي وضعها هابرماس لتصويب مسار الحداثة وتجديد مشروعها، تصدر عن نفس المقاربة الاختزالية للعقل التي يلخصها في مسلّمة «التزامن الساكن» التي تتنكر للبنية التذكرية للعقل anamnestic reason التي هي الأفق الذي دشنته الديانات التوحيدية (يتحدث هنا أساساً عن اليهودية، وإن كان في الحقيقة يتحدث عن التقليد الإبراهيمي التوحيدي في مجمله).
العقل التذكري من هذا المنظور ينطلق من أولوية الوعد المستقبلي (المخزون الاسكاتولوجي) على الوجود الثابت الذي هو موضوع الزمنية المفهومية، كما أنه يتأسس على قيم التضامن والسردية والانتظار المفتوح وينظر للإيمان كتجربة معيشة وحية تختزن آلام الإنسان ومعاناته بدل اعتباره اعتقاداً في مدونة معرفية أو نظرية مقننة.
ومن الجلي أن أطروحة «متز» تندرج في سياق النقاش اللاهوتي المسيحي الجديد الذي فجّره الجدل الفلسفي حول نهاية الميتافيزيقا، حيث نلمس اتجاهين: ذهب أحدهما إلى التمسك بالتقليد التومائي الكلاسيكي (نسبة لتوماس الاكويني) في رفض النزعة التفكيكية النقدية للميتافيزيقا التي التبست بالفكر الديني (أطروحة البابا بنديكت السادس عشر)، وذهب الاتجاه الثاني إلى أن نهاية الميتافيزيقا تحرر التجربة الإيمانية من قيود الميتافيزيقا نفسها وتفتح أفقاً جديداً للفكر الديني خارج القوالب اللاهوتية الوسيطة (أطروحة متز التي يوافق فيها الفيلسوفين الفرنسي جان ليك ماريون والإيطالي جاني فاتيمو).
وإذا كان هابرماس في كتابات سابقة قد طرح فكرة عودة الدين للمجال العمومي وفق مقتضيات شروط النقاش التداولي الحر في المجتمعات الحديثة التعددية، فإنه في الكتاب الأخير يستعيد أطروحة «متز» في أهمية العقلانية التذكرية المختلفة عن نمط العقلانية الأداتية المتفرعة عن الثورة العلمية والتقنية المعاصرة.
وإذا كان ينتقد «ثنائية أثينا والقدس» التي يتحدث عنها الفيلسوف الألماني الأميركي «ليو شتراوس»، إلا أنه يعترف بأن للفكر التوحيدي أفقاً عقلانياً يشكل تحدياً مستمراً للخطاب الفلسفي، كما يشكل مصدراً تتغذى منه الفلسفة باستمرار.
ففضلا عن كون العديد من المفاهيم المحورية في الحداثة لها جذورها الدينية مثل الذات الفردية وحرية الإرادة.. فإن العديد من الاتجاهات الفلسفية، بدءاً من النزعات الاسمية والتجريبية إلى المادية التاريخية، حاولت أن تترجم بلغة مفهومية برهانية المخزون الدلالي لتجربة الخلاص «التوراتي».
ما يخلص إليه هابرماس هو أن على الفلسفة أن تدرك أن الدين التوحيدي لا يزال يشكل تجربة حية وصلبة في العالم المعاصر، ليس كمجرد بناء مؤسسي أو نمط عيش وممارسة، بل كمعين فكري لا يمكن للفلسفة أن تتجاهله في أسئلتها الكبرى الثابتة التي لخصها إيمانويل كانط في ثلاثة أسئلة رئيسية هي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يتوجب علي أن أفعل؟ وماذا يمكن أن آمل؟ وهكذا فإن التجربة الدينية تبقى «رهاناً في جسم الحداثة» ما دامت تتعلق بممارسة دينية حية.
لسنا بحاجة إلى التشديد على ضرورة مشاركة الخطاب الكلامي الإسلامي في هذا النقاش الجديد حول الفلسفة والدين، والذي بدأ مبكراً في التقليد الإسلامي ومن آخر صفحاته الجدل الثري والعميق بين المتكلم الفيلسوف فخر الدين الرازي وابن تيمية. بيد أن الحقيقة المؤسفة هي أن هذا الجدل توقف عملياً مع انهيار المدرسة الكلامية في الإسلام السني وطغيان الأيديولوجيات السياسية والعقدية المتطرفة التي حاربت التراث العقلاني والفلسفي في التقليد الإسلامي.
وكان النقاش قد بدأ قبل ثلاثين سنة بنقد وجهه «متز» للفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية في تعاملها مع المسألة الدينية، معتبراً أن جذور قصور العقلانية الحديثة في مقاربة الموضوع الديني، راجعة إلى تأسيس اللاهوت المسيحي الوسيط على المفاهيم والمقولات الأنطولوجية اليونانية التي تختزل العقل في وظيفته المعرفية الإدراكية وفق معادلة شفافية الوجود أمام المفاهيم البرهانية والأدوات المنطقية. لقد اعتبر «متز» أن نظرية العقل التواصلي التي وضعها هابرماس لتصويب مسار الحداثة وتجديد مشروعها، تصدر عن نفس المقاربة الاختزالية للعقل التي يلخصها في مسلّمة «التزامن الساكن» التي تتنكر للبنية التذكرية للعقل anamnestic reason التي هي الأفق الذي دشنته الديانات التوحيدية (يتحدث هنا أساساً عن اليهودية، وإن كان في الحقيقة يتحدث عن التقليد الإبراهيمي التوحيدي في مجمله).
العقل التذكري من هذا المنظور ينطلق من أولوية الوعد المستقبلي (المخزون الاسكاتولوجي) على الوجود الثابت الذي هو موضوع الزمنية المفهومية، كما أنه يتأسس على قيم التضامن والسردية والانتظار المفتوح وينظر للإيمان كتجربة معيشة وحية تختزن آلام الإنسان ومعاناته بدل اعتباره اعتقاداً في مدونة معرفية أو نظرية مقننة.
ومن الجلي أن أطروحة «متز» تندرج في سياق النقاش اللاهوتي المسيحي الجديد الذي فجّره الجدل الفلسفي حول نهاية الميتافيزيقا، حيث نلمس اتجاهين: ذهب أحدهما إلى التمسك بالتقليد التومائي الكلاسيكي (نسبة لتوماس الاكويني) في رفض النزعة التفكيكية النقدية للميتافيزيقا التي التبست بالفكر الديني (أطروحة البابا بنديكت السادس عشر)، وذهب الاتجاه الثاني إلى أن نهاية الميتافيزيقا تحرر التجربة الإيمانية من قيود الميتافيزيقا نفسها وتفتح أفقاً جديداً للفكر الديني خارج القوالب اللاهوتية الوسيطة (أطروحة متز التي يوافق فيها الفيلسوفين الفرنسي جان ليك ماريون والإيطالي جاني فاتيمو).
وإذا كان هابرماس في كتابات سابقة قد طرح فكرة عودة الدين للمجال العمومي وفق مقتضيات شروط النقاش التداولي الحر في المجتمعات الحديثة التعددية، فإنه في الكتاب الأخير يستعيد أطروحة «متز» في أهمية العقلانية التذكرية المختلفة عن نمط العقلانية الأداتية المتفرعة عن الثورة العلمية والتقنية المعاصرة.
وإذا كان ينتقد «ثنائية أثينا والقدس» التي يتحدث عنها الفيلسوف الألماني الأميركي «ليو شتراوس»، إلا أنه يعترف بأن للفكر التوحيدي أفقاً عقلانياً يشكل تحدياً مستمراً للخطاب الفلسفي، كما يشكل مصدراً تتغذى منه الفلسفة باستمرار.
ففضلا عن كون العديد من المفاهيم المحورية في الحداثة لها جذورها الدينية مثل الذات الفردية وحرية الإرادة.. فإن العديد من الاتجاهات الفلسفية، بدءاً من النزعات الاسمية والتجريبية إلى المادية التاريخية، حاولت أن تترجم بلغة مفهومية برهانية المخزون الدلالي لتجربة الخلاص «التوراتي».
ما يخلص إليه هابرماس هو أن على الفلسفة أن تدرك أن الدين التوحيدي لا يزال يشكل تجربة حية وصلبة في العالم المعاصر، ليس كمجرد بناء مؤسسي أو نمط عيش وممارسة، بل كمعين فكري لا يمكن للفلسفة أن تتجاهله في أسئلتها الكبرى الثابتة التي لخصها إيمانويل كانط في ثلاثة أسئلة رئيسية هي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يتوجب علي أن أفعل؟ وماذا يمكن أن آمل؟ وهكذا فإن التجربة الدينية تبقى «رهاناً في جسم الحداثة» ما دامت تتعلق بممارسة دينية حية.
لسنا بحاجة إلى التشديد على ضرورة مشاركة الخطاب الكلامي الإسلامي في هذا النقاش الجديد حول الفلسفة والدين، والذي بدأ مبكراً في التقليد الإسلامي ومن آخر صفحاته الجدل الثري والعميق بين المتكلم الفيلسوف فخر الدين الرازي وابن تيمية. بيد أن الحقيقة المؤسفة هي أن هذا الجدل توقف عملياً مع انهيار المدرسة الكلامية في الإسلام السني وطغيان الأيديولوجيات السياسية والعقدية المتطرفة التي حاربت التراث العقلاني والفلسفي في التقليد الإسلامي.