في 9 نوفمبر 1989، فتح الحراس الألمان الشرقيون جدار برلين وغيّروا مسار التاريخ. وقد شكّل سقوط جدار برلين بداية نهاية الحرب الباردة. كما شكّل لحظة أمل أيضاً. وحتى قبل سقوط الجدار، كان آخر زعيم للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، يدافع عن فكرة «بيت أوروبي مشترك» تلعب فيه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي دوراً، وهو ما نال عليه إشادات حذرة من الزعماء الغربيين. وقال غورباتشوف في يونيو 1989: «أعتقد أننا خرجنا من فترة الحرب الباردة، حتى وإن بقيت ثمة بعض البرودة وتيارات الهواء»، مضيفاً: «إننا متجهون إلى مرحلة جديدة سأسمّيها الفترة السلمية في تطور العلاقات الدولية».
اليوم وبعد ثلاثين عاماً، ما انفكت تلك «البرودة وتيارات الهواء» تزداد قوة. فالولايات المتحدة وروسيا منخرطتان في حرب باردة جديدة باتت تشكّل خطراً على البشرية، إذ يملك البلدان معاً قرابة 14 ألف سلاح نووي، منها 1800 في حالة تأهب واستنفار دائمين. ووفق «نشرة العلماء الذريين»، فإن خطر «تدمير عالمنا بتكنولوجيات خطيرة من صنعنا» في أعلى مستوى له منذ 1953. وخلافاً لما كان عليه الحال في عام 1989، فليس ثمة أمل في أن تخف حدة هذه التوترات قريباً.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقول إنه يريد «التفاهم» مع روسيا، لكن إدارته زادت من مستوى الخطر النووي. ففي هذا العام، انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى الموقعة عام 1987، وهي خطوة حذّر خبراء حظر الانتشار النووي من أنها قد تفضي إلى سباق تسلح جديد. والآن، يبدو أن معاهدة «ستارت» الجديدة، التي سينقضي أجلها في فبراير 1921، هي الاتفاقية التالية التي ستصبح جزءاً من الماضي. وتفيد صحيفة «نيويورك تايمز» بأن إدارة ترامب «تعتزم تركها تنقضي إذا لم يتسن توسيعها» لتشمل الصين التي تبدو «غير مهتمة».
وهذا يعني أن عملية التحديث النووي الأميركية والروسية يمكن أن تتواصل من دون رادع، ما سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في السنوات المقبلة. وفي أفضل السيناريوهات، ستكون لدى رئيس ديمقراطي منتخَب حديثاً بضعة أسابيع فقط عقب تسلّمه منصبه لتمديد عمر الاتفاقية. ولهذا، فإن خطر مواجهة نووية «كبير جداً»، مثلما حذّر غورباتشوف في حوار مع هيئة الإذاعة البريطانية مؤخراً.
المثير للقلق أيضاً هو استفحال الانقسامات في أوروبا. ذلك أن قوات «الناتو» وسّعت وجودها حتى حدود روسيا، حيث توجد استعراضات يومية للبسالة والتحدي على الجانبين. والأدهى من ذلك هو أن أوكرانيا باتت ممزقة بسبب حرب أهلية بين الحكومة المدعومة أميركياً والانفصاليين المدعومين روسياً في منطقة دونباس الشرقية. ووفق مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فإن أكثر من 13 ألف شخص قُتلوا منذ أن بدأت الحرب في 2014، إضافة إلى 30 ألفاً آخرين أصيبوا بجروح.
فكيف انتقلنا من أمل 1989 إلى حرب باردة جديدة؟
الأكيد أن السياسة الخارجية الأميركية لعبت دوراً حاسماً. ففي السنوات التي أعقبت سقوط الجدار، هيمنت فكرتان رئيسيتان على السياسة الخارجية الأميركية: فكرة «نهاية التاريخ» الجيوسياسية وانتشار الديمقراطية الليبرالية، وفكرة الولايات المتحدة كـ«دولة أساسية لا غنى عنها». هاتان الفكرتان أسهمتا معاً في ما بات يعرف باللحظة أحادية القطبية. ثم انتهك «الناتو» التطمينات التي منحها لروسيا بعدم توسعه شرقاً «ولو بإنش واحد»، وهو استفزاز ترتبت عنه نتائج كارثية. وفي هذا السياق، حذّر دبلوماسي الحرب الباردة الأسطوري جورج كينان في 1998 من أن توسيع «الناتو» يمثّل «خطأً مأساوياً» وسيجعل روسيا «ترد على نحو عدائي».
ومن جانبها، تتحمل روسيا المسؤولية عن إهدار الفرصة التي أتاحها سقوط جدار برلين. ففي مرحلة ما بعد غورباتشوف، سمح الزعماء الروس بأن يحل محل السعيِ وراء إصلاحات ديمقراطية نظامُ رأسمالية أوليغارشية غذّى مشاعر السخط والاستياء.
والسؤال الأهم الآن هو: إلى أين ستذهب الولايات المتحدة وروسيا؟
الواقع أن الصداقة بينهما قد لا تكون مطروحة على الطاولة الآن، لكن الدبلوماسية والحوار ينبغي أن يكونا مطروحين عليها. فهذه اللحظة تستدعي انخراطاً بنّاءً من أجل خفض التوترات النووية. كما تستدعي تجديد التفكير في سبل إحياء رؤية غورباتشوف حول «بيت أوروبي مشترك» للقرن الحادي والعشرين.
*كاتبة وصحافية أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»