جاء قرار الحكومة البريطانية بداية الشهر الماضي، بتخصيص 220 مليون جنيه إسترليني، لتمويل تصميم تصوري لمحطة طاقة تعمل بأسلوب الاندماج النووي (Nuclear Fusion)، ليشعل الاهتمام العالمي من جديد بهذا الأسلوب في إنتاج الطاقة. ويأتي هذا القرار، بعد تخصيص الاتحاد الأوروبي هو الآخر نهاية مارس الماضي، مبلغ 100 مليون يورو، لتمويل تشغيل أكبر مفاعل نووي اندماجي في أوروبا حتى نهاية عام 2020، والواقع في مقاطعة «أوكسفوردشير» البريطانية، ويعمل به حالياً أكثر من 500 من العلماء والمهندسين.
وعلى عكس المفاعلات النووية الانشطارية الشائعة الاستخدام في وقتنا الحالي، والتي تولد الطاقة من خلال شطر نوات ذرات العناصر الثقيلة.. تعتمد فكرة المفاعلات الاندماجية على دمج ذرات بعض العناصر، وبصفة خاصة الهيدروجين، للحصول على الطاقة المرغوب في توليدها، حيث تتكون ذرات المواد من نواة تضم البروتونات والنيوترونات، تدور حولها إلكترونات، تماماً كما تدور الكواكب حول النجوم، وما يتم في المفاعلات الانشطارية هو شطر ذرات بعض المواد إلى نواتين أو أكثر.
وعلى المنوال نفسه، يمكن لدمج نواتين معاً إنتاج قدر هائل من الطاقة، وهي العملية الشائعة في الكون، وبالتحديد في النجوم. فالشمس مثلاً، وهي نجم متوسط الحجم، تشع هذا الكم الهائل من الضوء والحرارة نتيجة اندماج مستمر لأنوية غاز الهيدروجين وتحوله إلى غاز الهليوم. فالطاقة الشمسية في حقيقتها ما هي إلا انفجارات نووية اندماجية هائلة، حيث يقدر أن 600 مليون طن من غاز الهيدروجين تندمج أنويتها، في الثانية الواحدة، ليتم بذلك تحويل 4 ملايين طن من المادة إلى طاقة كل ثانية.
وكما نجح الإنسان في تدجين الطاقة النووية الانشطارية في الاستخدامات السلمية، يسعى العلماء منذ أربعينيات القرن الماضي إلى تدجين الطاقة النووية الاندماجية لتوفير الاحتياجات المستقبلية المتزايدة للجنس البشري من الطاقة.
وتتميز الطاقة الاندماجية بميزات عديدة مقارنة بالطاقة الانشطارية المستخدمة حالياً، مثل اعتمادها بشكل أساسي على الهيدروجين، والموجود بغزارة في الطبيعة، وهو ما يجعل منه مصدر طاقة متجدداً ومتوفراً. ومن المنظور السياسي، وبالتحديد تأمين مصادر الطاقة، يعتبر توفر عنصر الهيدروجين أحد مكونات الماء، من أهم مزايا الطاقة الاندماجية، حيث لا يمكن لدولة أو «كارتل» التحكم في مصدره. ومن المزايا الأمنية الأخرى للطاقة الاندماجية، أن المواد المستخدمة في إنتاجها، لا يمكن إعادة توجيه استخدامها للأغراض العسكرية.
وبوجه عام، ينظر الكثيرون للطاقة النووية، سواء الانشطارية أو الاندماجية، على أنها من أنواع الطاقة المستدامة، التي يمكنها خفض انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون، أحد أهم الغازات المسؤولة عن ظاهرة البيوت الزجاجية، وما يتبعها من احتباس حراري وتغيرات مناخية، بالإضافة إلى باقي الغازات الملوثة للهواء وللبيئة، والناتجة بكميات كبيرة عن حرق أنواع الوقود الأحفوري على اختلافها. كما أن الطاقة النووية يمكنها أن توفر قدراً كبيراً من أمن الطاقة، ومن الاعتماد على الذات، من خلال تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة المستوردة، وبصفة خاصة بالنسبة للدول الغربية التي يعتبر اعتمادها على الطاقة المستوردة من أهم نقاط ضعف اقتصادياتها، ما جعل ملف الطاقة نقطة محورية في تحديد توجهاتها السياسية على الصعيد العالمي.
وأمام هذه الفوائد الجمة للمفاعلات الاندماجية، والمصاحبة أيضاً بصعوبات هائلة وغير مسبوقة في تحويل النظريات العلمية إلى واقع عملي، قامت 35 دولة من أكثر دول العالم تقدماً علمياً وتقنياً واقتصادياً، بإنشاء تحالف دولي لإقامة أول مفاعل نووي تجريبي يعمل بهذه الطريقة (International Thermonuclear Experimental Reactor)، في إحدى مقاطعات جنوب فرنسا. ويزمع القائمون على هذا المفاعل تحقيق أول خطوة في التفاعل، أو خطوة البلازما، وذلك بحلول عام 2025. وإن كان الجميع يعترف بأن الخطوات اللاحقة ستكون أكثر صعوبة، من حيث هي تمثل تحدياً علمياً غير مسبوق، فإن الكثيرين يرون بأنه حتى بحلول عام 2050 لن يكون المفاعل جاهزاً لإنتاج الطاقة كما هو مخطط له.
وإن كان هذا لم يمنع العديد من حكومات العالم، سواء من خلال تحالفات دولية أو بشكل فردي، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، من استثمار مليارات الدولارات في محاولة لتحقيق هذا الاختراق الذي يحمل في طياته إمكانية تأمين مصدر طاقة بلا حدود. بل إن العديد من الشركات الخاصة، أصبحت تستثمر هي الأخرى مبالغ ضخمة سعياً نحو تحقيق هذا الهدف، وهو ما يرى البعض أنه قد يكون مصدر الحل، بسبب قدرة تلك الشركات على الابتكار، والمرونة التي تتعامل بها مع العوائق والصعوبات، مقارنة بالمشاريع الضخمة التي تدار حكومياً.
*كاتب متخصص في القضايا الصحية والعلمية