تشتهر مدينة فيينا عالمياً بتراثها الإمبراطوري، كقصر «شونبرون ،(Schönbrunn Palace) »وبلفيدير«(Belvedere) ، و«هوفبورغ«(Hofburg) .. مصحوبة بأرفع مستويات المعالم الموسيقية والثقافية التي تجدها في كل زاوية تقريباً، من القاعة الذهبية لجمعية الموسيقا «موزيك فيرآين «(Golden Hall of the Musikverein) إلى متحف الفنون الجميلة(Museum of Fine Arts) ودار الأوبرا الوطنية(State Opera House) .
لكن فيينا تشكل كذلك مرادفاً للمتعة الأبيقورية بما لها من تقاليد ترجع إلى قرون في تصميم مقاهيها ومطاعمها، وهي توجد في موقع جغرافي جميل شرق جبال الألب الشامخة. في هذه المدينة الجميلة جرى منذ أيام مؤتمر الحوار العالمي لمحاربة خطاب الكراهية من تنظيم مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات. المؤتمر الذي التأم على مدى يومين متتاليين، ومثّل استشعاراً لخطورة خطاب الكراهية، وسعياً لتعزيز التعايش السلمي في المجتمعات، حضرته شخصيات من كبار القيادات الدينية وصناع السياسات والجهات الفاعلة الحكومية وممثلي المنظمات الدولية والمجتمع المدني، من بينهم هاينز فيشر رئيس النمسا السابق.
وناقشنا، نحن المشاركين، خلال خمس جلسات، «دور الدين والإعلام والسياسات في مناهضة خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي»، في جهد يهدف إلى تبادل الآراء والتجارب بين المؤسسات والقيادات الدينية والإعلامية وصناع السياسات والمنظمات الدولية، لتفعيل التعاون والعمل المشترك، سعياً لمناهضة خطاب الكراهية، السبب الرئيسي وراء تفكك المجتمعات وتنامي التطرف فيها.
وقد جاء المؤتمر الدولي في إطار الجهود التي يقودها المركز من أجل تطوير مبادرات وخطط عمل نوعية لمناهضة خطاب الكراهية والتحريض على العنف وتعزيز التعايش السلمي، لتتوافق مع خطة العمل الخاصة بالقيادات والجهات الدينية الفاعلة والمناهضة للعنف والجرائم الوحشية. ويقوم رئيس المركز الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن معمر بمجهودات جبارة من أجل التأصيل لخطة طريق دولية من أجل بناء أسرة إنسانية دولية واحدة خالية من الكراهية والتشرذم، وهو الذي اكتسب، من خلال مسيرته الطويلة في مجال الحوار وعمله الدؤوب، قواعد هذا الحوار وشبكة من العلاقات المتينة.
وفي إطار التأصيل لبناء أسرة إنسانية واحدة وبيت مجتمعي مشترك، ومنذ عشر سنوات، ناديتُ شخصياً مع آخرين، في إطار منتديات فاس حول التحالف الحضاري، والمجلدات التسع حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي الصادرة تحت إشرافي، بإيجاد ميكانيزمات قانونية وجهوية ودولية تجرم خطاب الكراهية ونبذ الآخر وازدراء الأديان، وكانت بعض الدول تنظر إلى مثل هذه التوصية على أنها تشكل خطراً على الحريات العامة وحقوق الإنسان التي تدعو إليها، وهذا مخالف للحوار العالمي الذي ندعو إليه. لكن ما هو هذا الحوار؟ الحوار الحقيقي هو الذي تتأصل شجرته في النفوس، وتشمخ فروعه في آفاق حياة البشر، وتأنس أرواحهم في ظلاله الوارفة.. لتبدأ المجتمعات جني ثماره، وحينها تكون قادرة على بلورة قيم ومبادئ وأخلاقيات ووسائل وضوابط ميثاق بشري راسخ، يكون منطلقاً صلباً وسبيلاً آمناً لمسيرة بشرية راشدة.
ويبقى السؤال المتجدد: ماهو السبيل إلى ذلك وكيف يكون؟
الجواب مرة ثانية وثالثة.. هو..: الحوار، أجل الحوار.. لكن مع إضافة نؤكد بها ونقول: الحوار المحايد، المحايد دينياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعرقياً وجنسياً.. نريد حوار الإنسان للإنسان. وفق قيم محايدة، بعيداً عن خصوصيات الفهم والاجتهاد والتأويل للمنطلقات الربانية الإنسانية الجامعة.
لا نريد حواراً ينتصر لثقافة بعينها على أخرى، أو تبسط فيه دولة ما هيمنتَها على دول أخرى، أو تتحقق به طموحات سياسية ما على حساب أخرى.. بل نريد حواراً ينتظم به ومعه التنوع البشري بكل أشكاله ومصالحه.. نريد حواراً تنتظم به المفاهيم المشتركة، وتتوحد معه الغايات المشتركة، ويصان به المصير الإنساني المشترك. نريد حواراً مؤسساً على ثوابت الاحترام المتبادل، حواراً ترتكز منهجيته على عدم التعرض للخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية.. وعدم انتهاك رموزها ومقدساتها. نريد حواراً تحشد به طاقات وإمكانات التنوع البشري بكل انتماءاته ومضامينه ومسمياته وطموحاته.. من أجل التعاون والعمل الصادق لصون:
1. قدسية قيم الإيمان بالله، ووحدة الأسرة البشرية ومصالحها المشتركة.
2. قدسية حياة الإنسان وكرامته وممتلكاته.
3. قدسية العدل والسلام وسلامة البيئة.
4. قدسية عقل الإنسان وحريته وغذائه وصحته وتعليمه.