اجتمع منذ يومين كتاب صحيفة «الاتحاد» في منتداها الفكري السنوي، وهو مناسبة يتجدد فيها اللقاء الأخوي بين كتاب جعلوا القلم والفكر أداتين دائمتين لحياتهم ومع الجريدة الغراء التي تحتفل بمرور خمسين عاماً على إنشائها. عُهد إليّ في هذا الملتقى الهام بالتعليق على ورقتي كل من الدكتور عمار علي حسن والأستاذ إبراهيم غرايبة، وتوقفت في تدخلي عند بعض النقاط المجسدة لمسألة التسامح، إما لأنها تحتاج لمزيد من التوضيح أو لأنها لم يشر إليها:
دققت بعض المصلحات من قبيل القوة الناعمة موضوع جلستنا. فكما يعلم المتتبعون للشأن الدولي، فهناك كتاب مرجعي مهم أصدره في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أستاذ جامعة هارفرد، الماريشال جوزيف ناي، عنوانه «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية»، وأكد فيه مزايا الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تتأتى من جاذبيتها الثقافية والسياسية وغيرها.. والتي يمكنها أن تحقق الكثير من الأشياء، فنجده يكتب: «إنه وإن أمكن الوصول إلى الأهداف من خلال القوى الخشنة، باستعمال القوة من قبل القوى الكبرى، فإنه قد يشكل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية»، لذا فإن أرادت أميركا أن تبقى قوية، «فعلى الأميركيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة». فالقوة الناعمة هي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودون احتذاءه. انتشار محلات بيتزا هوت ومكدونالد في جميع أنحاء العالم وتعلق الناس بسروال الجينز.. كل ذلك يمثل قوة ناعمة. كما أن سمعة بعض دول أوروبا الشمالية باعتبارها البلدان الأقل فساداً في العالم هو قوة ناعمة. والدقة المعروفة عن المجتمع السويسري هي قوة ناعمة. ومدينة فلورنسا الإيطالية كعاصمة للرسم والفن والهندسة المعمارية، قوة ناعمة. وقوة باريس الثقافية من متاحف وفنانين ومآثر.. قوة ناعمة. كما أن التطور الحضاري في دولة الإمارات وسعيها لبناء الأسرة الإنسانية الواحدة في إطار السياسات العمومية.. ملمحان لقوة ناعمة هامة ومؤثرة. إنه الحوار العالمي البنّاء الذي يقوم على اجتثاث مسببات الكره من جذورها.. الحوار المحايد دينياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعرقياً وجنسياً. نريد حوار الإنسان للإنسان، وفق قيم محايدة بعيداً عن خصوصيات الفهم والاجتهاد والتأويل للمنطلقات الجامعة.
كثيراً ما يسأل طلاب الجامعات عندنا عن أسباب نجاح أقطار وفشل أخرى في تحقيق عوامل التنمية، وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك رغم أنها تتوفر على نفس الموارد الطبيعية ونفس الإرث التاريخي والمجتمعي؟ والجواب يكمن في عبقرية أناس استثمروا بذكاء منذ الوهلة الأولى، أي منذ نشأة الدولة. فقد كان تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971 نقطة حاسمة في حياة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث ارتقى إلى مستوى التحدي بأن يصبح قائداً متسامحاً لكل الناس في الدولة، وليس قائداً فقط لمن هم من ثقافته. كما أعجبت الأعداد الكبيرة من الوافدين إلى دولة الإمارات به قائداً وإنساناً ورجل وفاق وتسامح. فكان خير الناس هو المبدأ الذي عمل من أجله، وكان دائم اليقظة إزاء الاحتياجات الحقيقية للأسر والأطفال.
ولعل أهم ملمح لتاريخ دولة من الدول هو موقفها من قضايا السلام وتحقيق الوفاق والمصالحة وتوطيد دعائم الأمن وتجذير الثقة.. فالثقة هي الوقود المحرك في هذا كله، لاسيما الثقة بين الدولة والمجتمع، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح سياسي من النجاح إلا بالاستناد إليها، وبها تترسخ ركائز عقد جديد بين الدولة والمجتمع ويتقوى تماسك اللحمة الحامية للدولة ومؤسساتها.
إن المقاربة الاستراتيجية يجب أن تقوم على الاستثمار الاجتماعي انطلاقاً من مقولة الصينيين القدماء «لا تعطني سمكة كل يوم، لكن علمني كيف أصطاد»، بمعنى أن ترسيخ قيم التسامح وتوفير فرص الشغل وتشجيع الاستثمار والمبادرات الفردية هي خير وقاية من الهشاشة وأكبر تثبيتاً للسلم الاجتماعي.