للمفكر الأميركي مارك ليلا تمييز طريف بين ثلاثة أنواع من الأيديولوجيات تتصادم راهناً في الساحة الدولية: النزعة التقدمية التي ترى في حركة التاريخ تحولا موضوعياً وغائياً نحو تحرر البشرية ورفاهيتها، والنزعة الرجعية التي ترى في مسار التحول التاريخي في العصور الحديثة انحطاطاً عن القيم الإنسانية الثابتة، والنزعة المحافظة التي تريد استمرار واستقرار الأوضاع القائمة.
ما يجمع بين النزعة التقدمية والنزعة الرجعية، حسب «ليلا»، هو نفس الموقف الأسطوري من الزمن، بالنظر إلى لحظة تأسيسية مطلقة في حركة التاريخ تعتبر إما الجنة المفقودة التي يتعين العودة إليها أو الجنة الموعودة التي يجب الوصول إليها. ووفق هذا التصور، يتم إلغاء التفكير الجدي حول الواقع في تعقده وتعدد وتباين أوجهه بحثاً عن معنى مسبق وأحادي لديناميكية التحول الزمني. ولذا يتعين التفريق بين الاتجاهات المحافظة والحركات الرجعية من حيث اختلافهما في محدد جوهري هو رفض فكرة الثورة الراديكالية التي تغير الواقع، إما رجوعاً إلى الماضي الأسطوري أو توجهاً نحو المستقبل الطوباوي.
ما نلمسه راهناً هو صعود متزامن للنزعتين الرجعية والأصولية اللتين يجمعهما معاً نمط الانتظام الشعبوي السائد، والحال أنهما تختلفان في منطقهما العميق وفي موقفهما من المنظومة الديمقراطية.
النزعات المحافظة تستوعب مكاسب الحداثة وتسعى للدفاع عنها، في مقابل جموح الأيديولوجيات التقدمية التي نادراً ما تتكيف مع منطق التوازنات والتعددية الاجتماعية والفكرية. ولقد برز القلق من تطرف الأيديولوجيات التقدمية عند فلاسفة التنوير والحداثة من روسو وكانط إلى هابرماس حالياً في نقده لتحول المشروع الحداثي نحو نزعة طبيعية وضعية في انفصام كامل مع الأهداف التحررية والإنسانية لديناميكية الحداثة الأصلية.
ومن هنا ندرك أن التيارات المحافظة في أوروبا التي تمحورت حول الأحزاب المسيحية الديمقراطية واليمين الوسط، تتقاسم مع الاتجاهات الليبرالية المقومات الأساسية للفكرة الديمقراطية التعددية ومنظومة حقوق الإنسان، على عكس النزعات الرجعية الجديدة التي تقبل من الديمقراطية آلياتها الإجرائية المسطرية في تنظيم الحقل السياسي وشرعنة السلطة، إلا أنها تقف موقفاً مناوئاً من القيم المحورية للحداثة، من اعتبارات التعددية الفكرية والمجتمعية ومعايير الفردية والعدالة التوزيعية والهوية المفتوحة.
ومن النزعات الرجعية، بمفهوم «ليلا»، الأصوليات الدينية التي ارتفع صوتها في العقود الأخيرة، وبعضها وصل للسلطة عن طريق الآليات التنافسية الديمقراطية.
وإذا كان من الخُلف الحديث عن «الثورات المحافظة»، باعتبار أن الفكر المحافظ يتعارض جوهرياً مع مقولة التحول الراديكالي (وذلك ما بيّنه الفيلسوف الإنجليزي ادمون برك في كتابه الشهير حول الثورة الفرنسية التي عاصرها)، فإن مفهوم الثورة هو المقولة المشتركة بين التيارين التقدمي والرجعي في علاقتهما بالواقع وتصورهما للزمن.
وكان الفيلسوف الإيراني «داريوش شايغان»، الذي رحل عن دنيانا السنة الماضية، قد كتب في عام 1979 كتاباً معروفاً بعنوان «ما الثورة الدينية؟»، ذهب فيه إلى أن التحول الذي عرفته بلاده كان حصيلة تداخل مفهوم علماني حداثي ومتخيل لاهوتي ديني، بحيث حولت زمنية الانتظار المقدسة خارج حدود التاريخ إلى زمنية للفعل السياسي الراديكالي. ولئن كان شايغان قد خلص إلى أن مفهوم الثورة الدينية مختل معرفياً ودلالياً، إلا أنه فاته أن مفهوم الثورة ذاته له خلفياته اللاهوتية الواضحة التي تفسر سهولة تقاسمه ما بين النزعات اليسارية المعادية للدين والحركات الدينية الأصولية.
والمفارقة البادية للعيان في هذا الخصوص هي أن القيم الليبرالية والديمقراطية تتلاءم مع الفكر المحافظ بدلا من الاتجاهين التقدمي الراديكالي والرجعي النكوصي، لسببين أساسيين هما:
أولا: انطلاق الفكر المحافظ من أطروحة التقليد المفتوح، أي الثوابت المرجعية الأساسية التي هي ضوابط الإصلاح ودوافعه دون قطيعة جذرية. فالقطائع والاتصالات هي المسلك نحو العنف والاستبداد والأحادية القسرية، بينما تختزن فكرة الإصلاح الموقف النقدي المرن. فالتعارض ليس بين مجتمع «حديث» وآخر «أصيل»، بل بين مجتمع مغلق ومجتمع مفتوح حسب عبارة كارل بوبر.
ثانياً: أن الفكر المحافظ مهيأ لقبول تعددية الآراء والأفكار من منطلق الاعتبارات الواقعية، أي تعقد الواقع الذي يفرض إدارة التعددية والتنوع بدل منطق مسح الطاولة وإعادة صناعة الإنسان، كما هو الاتجاه الغالب على أنماط الثورات التقدمية والرجعية.
وفي الساحة الإسلامية الصراع محتدم بين الاتجاهين المحافظ والراديكالي، ولا شك في أن التحول الديمقراطي الآمن في مجتمعاتنا مرهون إلى حد بعيد بمستقبل هذا الصراع الذي يتركز داخل الحقل الديني نفسه تأويلا وممارسة.
مثال الاتجاه المحافظ هو «حزب الاستقلال» في المغرب الذي قاد حركة التحرير الوطني وبناء الدولة، وقد صاغ رؤيته الثقافية الفقيه المفكر المجدد علال الفاسي، وحزب «الوفد» الأصلي في مصر الذي تشكل وتطور في سياج المشروع الإصلاحي للإمام محمد عبده وتلاميذه.
وما نعيشه اليوم هو صعود الراديكاليات الدينية وتراجع التيار المحافظ الليبرالي الذي له انعكاسه الجلي على استقرار المجتمعات العربية وتحولها السياسي.
ما يجمع بين النزعة التقدمية والنزعة الرجعية، حسب «ليلا»، هو نفس الموقف الأسطوري من الزمن، بالنظر إلى لحظة تأسيسية مطلقة في حركة التاريخ تعتبر إما الجنة المفقودة التي يتعين العودة إليها أو الجنة الموعودة التي يجب الوصول إليها. ووفق هذا التصور، يتم إلغاء التفكير الجدي حول الواقع في تعقده وتعدد وتباين أوجهه بحثاً عن معنى مسبق وأحادي لديناميكية التحول الزمني. ولذا يتعين التفريق بين الاتجاهات المحافظة والحركات الرجعية من حيث اختلافهما في محدد جوهري هو رفض فكرة الثورة الراديكالية التي تغير الواقع، إما رجوعاً إلى الماضي الأسطوري أو توجهاً نحو المستقبل الطوباوي.
ما نلمسه راهناً هو صعود متزامن للنزعتين الرجعية والأصولية اللتين يجمعهما معاً نمط الانتظام الشعبوي السائد، والحال أنهما تختلفان في منطقهما العميق وفي موقفهما من المنظومة الديمقراطية.
النزعات المحافظة تستوعب مكاسب الحداثة وتسعى للدفاع عنها، في مقابل جموح الأيديولوجيات التقدمية التي نادراً ما تتكيف مع منطق التوازنات والتعددية الاجتماعية والفكرية. ولقد برز القلق من تطرف الأيديولوجيات التقدمية عند فلاسفة التنوير والحداثة من روسو وكانط إلى هابرماس حالياً في نقده لتحول المشروع الحداثي نحو نزعة طبيعية وضعية في انفصام كامل مع الأهداف التحررية والإنسانية لديناميكية الحداثة الأصلية.
ومن هنا ندرك أن التيارات المحافظة في أوروبا التي تمحورت حول الأحزاب المسيحية الديمقراطية واليمين الوسط، تتقاسم مع الاتجاهات الليبرالية المقومات الأساسية للفكرة الديمقراطية التعددية ومنظومة حقوق الإنسان، على عكس النزعات الرجعية الجديدة التي تقبل من الديمقراطية آلياتها الإجرائية المسطرية في تنظيم الحقل السياسي وشرعنة السلطة، إلا أنها تقف موقفاً مناوئاً من القيم المحورية للحداثة، من اعتبارات التعددية الفكرية والمجتمعية ومعايير الفردية والعدالة التوزيعية والهوية المفتوحة.
ومن النزعات الرجعية، بمفهوم «ليلا»، الأصوليات الدينية التي ارتفع صوتها في العقود الأخيرة، وبعضها وصل للسلطة عن طريق الآليات التنافسية الديمقراطية.
وإذا كان من الخُلف الحديث عن «الثورات المحافظة»، باعتبار أن الفكر المحافظ يتعارض جوهرياً مع مقولة التحول الراديكالي (وذلك ما بيّنه الفيلسوف الإنجليزي ادمون برك في كتابه الشهير حول الثورة الفرنسية التي عاصرها)، فإن مفهوم الثورة هو المقولة المشتركة بين التيارين التقدمي والرجعي في علاقتهما بالواقع وتصورهما للزمن.
وكان الفيلسوف الإيراني «داريوش شايغان»، الذي رحل عن دنيانا السنة الماضية، قد كتب في عام 1979 كتاباً معروفاً بعنوان «ما الثورة الدينية؟»، ذهب فيه إلى أن التحول الذي عرفته بلاده كان حصيلة تداخل مفهوم علماني حداثي ومتخيل لاهوتي ديني، بحيث حولت زمنية الانتظار المقدسة خارج حدود التاريخ إلى زمنية للفعل السياسي الراديكالي. ولئن كان شايغان قد خلص إلى أن مفهوم الثورة الدينية مختل معرفياً ودلالياً، إلا أنه فاته أن مفهوم الثورة ذاته له خلفياته اللاهوتية الواضحة التي تفسر سهولة تقاسمه ما بين النزعات اليسارية المعادية للدين والحركات الدينية الأصولية.
والمفارقة البادية للعيان في هذا الخصوص هي أن القيم الليبرالية والديمقراطية تتلاءم مع الفكر المحافظ بدلا من الاتجاهين التقدمي الراديكالي والرجعي النكوصي، لسببين أساسيين هما:
أولا: انطلاق الفكر المحافظ من أطروحة التقليد المفتوح، أي الثوابت المرجعية الأساسية التي هي ضوابط الإصلاح ودوافعه دون قطيعة جذرية. فالقطائع والاتصالات هي المسلك نحو العنف والاستبداد والأحادية القسرية، بينما تختزن فكرة الإصلاح الموقف النقدي المرن. فالتعارض ليس بين مجتمع «حديث» وآخر «أصيل»، بل بين مجتمع مغلق ومجتمع مفتوح حسب عبارة كارل بوبر.
ثانياً: أن الفكر المحافظ مهيأ لقبول تعددية الآراء والأفكار من منطلق الاعتبارات الواقعية، أي تعقد الواقع الذي يفرض إدارة التعددية والتنوع بدل منطق مسح الطاولة وإعادة صناعة الإنسان، كما هو الاتجاه الغالب على أنماط الثورات التقدمية والرجعية.
وفي الساحة الإسلامية الصراع محتدم بين الاتجاهين المحافظ والراديكالي، ولا شك في أن التحول الديمقراطي الآمن في مجتمعاتنا مرهون إلى حد بعيد بمستقبل هذا الصراع الذي يتركز داخل الحقل الديني نفسه تأويلا وممارسة.
مثال الاتجاه المحافظ هو «حزب الاستقلال» في المغرب الذي قاد حركة التحرير الوطني وبناء الدولة، وقد صاغ رؤيته الثقافية الفقيه المفكر المجدد علال الفاسي، وحزب «الوفد» الأصلي في مصر الذي تشكل وتطور في سياج المشروع الإصلاحي للإمام محمد عبده وتلاميذه.
وما نعيشه اليوم هو صعود الراديكاليات الدينية وتراجع التيار المحافظ الليبرالي الذي له انعكاسه الجلي على استقرار المجتمعات العربية وتحولها السياسي.