على الشاطئ، وعلى الطريق، وقرب الميناء، وفي وسط الصحراء.. في تونس، لا يبعد عنك المقهى سوى ببضعة أمتار، وأنت لا تبعد عن فنجانك التالي من القهوة سوى ببضع سويعات.
مركز الحياة اليومية في هذا البلد الواقع في شمال أفريقيا، هو عبارة عن امتداد لا نهاية له: فكراسي وطاولات المقاهي تنتشر على كل الشوارع، والكورنيشات، وعلى الأزقة الضيقة للمدينة القديمة المرصوفة بالحجارة. لكن هذه الأمكنة لا تشبه مقهى «ستارباكس» التي تتوقف عندها أثناء رحلتك الصباحية إلى العمل، بل مراكز الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وحتى عندما ينفد مخزون أخبارك، وتفرغ من الدردشة، وترتشف آخر قطرة من السائل البني السحري، تتحول هذه الأماكن إلى أدوارها الأبسط والطبيعية: مكان ممتع وجميل للجلوس ومشاهدة العالم يمر من حولك. وسواء أكنت ممن يتابعون الناس في بلدة سيدي بوسعيد الساحلية الجميلة (حي أغنياء مدينة تونس وأثريائها)، أو في بلدة زراعية، أو في الصحاري الجنوبية، هناك دائماً مقهى به آلة لصنع الإسبريسو وفنجان قهوة سعره في المتناول.
وإذا كانت المقاهي في بلدان عربية أخرى ترتبط في أحيان كثيرة بشباب يدخنون النرجيلة على أنغام الموسيقا، فإن المقهى التونسي لكل الناس، من كل الأعمار، وفي كل أوقات اليوم تقريباً؛ شيب وشباب، عزاب وعائلات، مصرفيون وعشاق موضة، جزارون وشيوخ صوفيون.. يمكن ملاحظتهم جميعاً وهم يطلبون إسبريسو صغيرة أو مشروباً من الحليب والإسبريسو (كابوتشين).
في تونس، المقهى هو المكان حيث يتساوى الجميع. ففي السادسة صباحاً، يتقاطر الناس على المقاهي بالعشرات؛ صحيفة في يد وهلالية في اليد الأخرى، من أجل الجلوس وبدء يومهم قبل التوجه إلى العمل. وحتى منتصف الليل، يُعتبر المقهى المكان المفضل لعقد الاجتماعات، وإجراء مقابلات الوظائف، والالتقاء بالأصدقاء، والمكان المحايد لأول لقاء غرامي بين رجل وامرأة.
ولعل ما يميز المقهى التونسي هو استخداماته المتعددة. ففي إحدى مساءات الأربعاء بمقهى «صاف صاف» في شمال تونس العاصمة، كان البعض يتابعون مباراة في كرة القدم على الشاشة في إحدى الغرف، والبعض يشاهد المناظرات الرئاسية على شاشة أخرى، بينما كانت مجموعة من الشبان والشابات في الثلاثينيات يناقشون الإصلاحات الاقتصادية والماركسية، ورجلان في سن الستين يلعبان لعبة الطاولة، ومراهقات ترتدين جلاليب ملونة تلتقطن لأنفسهن صور سيلفي، قصد تخليد لحظة لقائهن معاً.
ثم إن سعر المقاهي في المتناول على نحو مذهل. ذلك أن المرء يستطيع شراء فنجان إسبريسو مقابل 0.8 دينار تونسي، أو ما يعادل 26 سنتاً أميركياً، ما يجعل هذا الطقس اليومي في متناول الناس من كل الخلفيات الاجتماعية. كما تُعد المقاهي ملاذاً لمن ليس له مكان يأوي إليه.
على جزر قرقنة شرق صفاقس، يجلس صيادون فقدوا مراكبهم ومصدر عيشهم بسبب قلة الأسماك التي يصيدونها جراء تلوث البحر، يجلسون لارتشاف القهوة، بفاتورة شهرية تبلغ نحو 6 دولارات. ويقول أحمد (صياد في الحادية والعشرين من عمره)، وهو يرتشف آخر قطرة من فنجان قهوته: «إذا كنت لا تستطيع تحمّل ثمن الإيجار، فإنك تستطيع دائماً تحمّل ثمن قهوة».
وبالنسبة للتونسيين الذين يبحثون عن مشروع ثابت، فإن القهوة رهان رابح، كما يقول معز برهوم.
فمنذ ستة عشر عاماً، يدير برهوم مقهى على الشاطئ في «المرسى»، وهو حي راقٍ من أحياء تونس العاصمة، حيث يبيع الإسبريسو لمن يرغبون في الجلوس على الرمال ومواجهة البحر الأبيض المتوسط مقابل سعر يفوق المتوسط، ولكنه يظل معقولاً: 3 دينارات، أو ما يعادل دولاراً أميركياً واحداً. ويقول برهوم وهو يسحب فنجان قهوة آخر من آلة الإسبريسو: «إن سبب ذهاب التونسيين إلى المقهى هو أننا لا نرغب في الجلوس في البيت وعدم فعل أي شيء عندما يكون لدينا وقت فراغ.. إننا نريد التحدث، أو الدراسة، أو القراءة، أو أن نرى الناس أو يرونا. وليس ثمة مكان أفضل لذلك من مقهى، ولا مشروب أفضل من القهوة!».
المشروب أُدخل إلى تونس أول مرة في القرن السادس عشر على أيدي العثمانيين، الذين كانوا يسيطرون على البلد بسبب موقعه كمركز بحري مهم. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، وقبل الاحتلال الفرنسي، كان ثمة 150 مقهى في تونس تقدم لزبائنها الشاي والقهوة التركية، والتي ما زال من الممكن إيجادُها اليوم. لكن القهوة المفضلة اليوم هي الإسبريسو، التي أُدخلت بعد وصول الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر.
طقس القهوة يربط الروحي بالسياسي أيضاً. فالمصلون الذين يؤدون صلاة الفجر، كثيراً ما يخرجون من باب المسجد ويسيرون لبضعة أمتار إلى المقهى المجاور، من أجل الدردشة مع الأصدقاء والجيران والاستماع إلى نشرات الأخبار على الراديو. وهذا التقليد هو الذي ساعد على ولادة النشاط السياسي في القرن العشرين، حيث كان المقهى منصةً بالنسبة للحركة الوطنية التونسية التي أسقطت نير الاحتلال الفرنسي.
وخلال عطلة عيد الأضحى، يؤدي التونسيون صلاة العيد في جامع الزيتونة، ثم يتوجهون في ما يشبه المواكب إلى أقرب مقهى من أجل تبادل التهاني مع تناول مشروب احتفالي. وتقول فاطمة، وهي أم لثلاثة أبناء، عقب صلاة الجمعة في المدينة القديمة لتونس: «إننا نشرب القهوة في هذه الحياة. أما الحياة الأخرى، فيدبرها الحكيم العليم».
*كاتب وصحفي متخصص في شؤون الشرق الأوسط
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
مركز الحياة اليومية في هذا البلد الواقع في شمال أفريقيا، هو عبارة عن امتداد لا نهاية له: فكراسي وطاولات المقاهي تنتشر على كل الشوارع، والكورنيشات، وعلى الأزقة الضيقة للمدينة القديمة المرصوفة بالحجارة. لكن هذه الأمكنة لا تشبه مقهى «ستارباكس» التي تتوقف عندها أثناء رحلتك الصباحية إلى العمل، بل مراكز الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وحتى عندما ينفد مخزون أخبارك، وتفرغ من الدردشة، وترتشف آخر قطرة من السائل البني السحري، تتحول هذه الأماكن إلى أدوارها الأبسط والطبيعية: مكان ممتع وجميل للجلوس ومشاهدة العالم يمر من حولك. وسواء أكنت ممن يتابعون الناس في بلدة سيدي بوسعيد الساحلية الجميلة (حي أغنياء مدينة تونس وأثريائها)، أو في بلدة زراعية، أو في الصحاري الجنوبية، هناك دائماً مقهى به آلة لصنع الإسبريسو وفنجان قهوة سعره في المتناول.
وإذا كانت المقاهي في بلدان عربية أخرى ترتبط في أحيان كثيرة بشباب يدخنون النرجيلة على أنغام الموسيقا، فإن المقهى التونسي لكل الناس، من كل الأعمار، وفي كل أوقات اليوم تقريباً؛ شيب وشباب، عزاب وعائلات، مصرفيون وعشاق موضة، جزارون وشيوخ صوفيون.. يمكن ملاحظتهم جميعاً وهم يطلبون إسبريسو صغيرة أو مشروباً من الحليب والإسبريسو (كابوتشين).
في تونس، المقهى هو المكان حيث يتساوى الجميع. ففي السادسة صباحاً، يتقاطر الناس على المقاهي بالعشرات؛ صحيفة في يد وهلالية في اليد الأخرى، من أجل الجلوس وبدء يومهم قبل التوجه إلى العمل. وحتى منتصف الليل، يُعتبر المقهى المكان المفضل لعقد الاجتماعات، وإجراء مقابلات الوظائف، والالتقاء بالأصدقاء، والمكان المحايد لأول لقاء غرامي بين رجل وامرأة.
ولعل ما يميز المقهى التونسي هو استخداماته المتعددة. ففي إحدى مساءات الأربعاء بمقهى «صاف صاف» في شمال تونس العاصمة، كان البعض يتابعون مباراة في كرة القدم على الشاشة في إحدى الغرف، والبعض يشاهد المناظرات الرئاسية على شاشة أخرى، بينما كانت مجموعة من الشبان والشابات في الثلاثينيات يناقشون الإصلاحات الاقتصادية والماركسية، ورجلان في سن الستين يلعبان لعبة الطاولة، ومراهقات ترتدين جلاليب ملونة تلتقطن لأنفسهن صور سيلفي، قصد تخليد لحظة لقائهن معاً.
ثم إن سعر المقاهي في المتناول على نحو مذهل. ذلك أن المرء يستطيع شراء فنجان إسبريسو مقابل 0.8 دينار تونسي، أو ما يعادل 26 سنتاً أميركياً، ما يجعل هذا الطقس اليومي في متناول الناس من كل الخلفيات الاجتماعية. كما تُعد المقاهي ملاذاً لمن ليس له مكان يأوي إليه.
على جزر قرقنة شرق صفاقس، يجلس صيادون فقدوا مراكبهم ومصدر عيشهم بسبب قلة الأسماك التي يصيدونها جراء تلوث البحر، يجلسون لارتشاف القهوة، بفاتورة شهرية تبلغ نحو 6 دولارات. ويقول أحمد (صياد في الحادية والعشرين من عمره)، وهو يرتشف آخر قطرة من فنجان قهوته: «إذا كنت لا تستطيع تحمّل ثمن الإيجار، فإنك تستطيع دائماً تحمّل ثمن قهوة».
وبالنسبة للتونسيين الذين يبحثون عن مشروع ثابت، فإن القهوة رهان رابح، كما يقول معز برهوم.
فمنذ ستة عشر عاماً، يدير برهوم مقهى على الشاطئ في «المرسى»، وهو حي راقٍ من أحياء تونس العاصمة، حيث يبيع الإسبريسو لمن يرغبون في الجلوس على الرمال ومواجهة البحر الأبيض المتوسط مقابل سعر يفوق المتوسط، ولكنه يظل معقولاً: 3 دينارات، أو ما يعادل دولاراً أميركياً واحداً. ويقول برهوم وهو يسحب فنجان قهوة آخر من آلة الإسبريسو: «إن سبب ذهاب التونسيين إلى المقهى هو أننا لا نرغب في الجلوس في البيت وعدم فعل أي شيء عندما يكون لدينا وقت فراغ.. إننا نريد التحدث، أو الدراسة، أو القراءة، أو أن نرى الناس أو يرونا. وليس ثمة مكان أفضل لذلك من مقهى، ولا مشروب أفضل من القهوة!».
المشروب أُدخل إلى تونس أول مرة في القرن السادس عشر على أيدي العثمانيين، الذين كانوا يسيطرون على البلد بسبب موقعه كمركز بحري مهم. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، وقبل الاحتلال الفرنسي، كان ثمة 150 مقهى في تونس تقدم لزبائنها الشاي والقهوة التركية، والتي ما زال من الممكن إيجادُها اليوم. لكن القهوة المفضلة اليوم هي الإسبريسو، التي أُدخلت بعد وصول الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر.
طقس القهوة يربط الروحي بالسياسي أيضاً. فالمصلون الذين يؤدون صلاة الفجر، كثيراً ما يخرجون من باب المسجد ويسيرون لبضعة أمتار إلى المقهى المجاور، من أجل الدردشة مع الأصدقاء والجيران والاستماع إلى نشرات الأخبار على الراديو. وهذا التقليد هو الذي ساعد على ولادة النشاط السياسي في القرن العشرين، حيث كان المقهى منصةً بالنسبة للحركة الوطنية التونسية التي أسقطت نير الاحتلال الفرنسي.
وخلال عطلة عيد الأضحى، يؤدي التونسيون صلاة العيد في جامع الزيتونة، ثم يتوجهون في ما يشبه المواكب إلى أقرب مقهى من أجل تبادل التهاني مع تناول مشروب احتفالي. وتقول فاطمة، وهي أم لثلاثة أبناء، عقب صلاة الجمعة في المدينة القديمة لتونس: «إننا نشرب القهوة في هذه الحياة. أما الحياة الأخرى، فيدبرها الحكيم العليم».
*كاتب وصحفي متخصص في شؤون الشرق الأوسط
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»