اشتهرت امرأة عراقية «خرساء»، توزع على المتظاهرين مناديل ورقيَّة، ليمسحوا بها الإجهاد والماء الحار، والدَّم مِن الرّصاص الحيَّ. تكلّمت معهم بلغة المشاعر لا الكلمات، عادلت مئات خطب أصحاب المنابر المدافعين عن الفاسدين. كشفت مساهمتها في التَّظاهرات أكاذيب «الجهاديين» وقد صار «جهادهم» بوابةً للنهب. تحدت في مشاركتها فساد(التُّقاة) مِن الأحزاب الدِّينية، بعد أن صارَ لكلِّ حزب مكتبه الاقتصادي المسؤول عن النَّهب العام.
بعد اتهام الشَّباب المتظاهرين بالبعثية والصّهيونية، مِن قِبل أصحاب الضَّمائر المأزومة، الخائفين على عرش الولي الفقيه الإيراني يتزلزل داخل العراق، تبدو بائعة المناديل المتجولة الخرساء متهمة ضمناً، فهي ترى الفساد والخراب العام، بينما هم يرون الماء الآسن عذباً إذا اختلط بتعاليم الولي الفقيه، أما الفساد والخراب الشَّامل فجميعه مِن اختلاق البعثيين والصَّهاينة!
لقد وضعت هذه الانتفاضة الشَّبابية حداً لأوهام مَن اعتقد أن الدِّين والمذهب حاميان لهذا النِّظام، فكم مِن خطيب منبر حاول إسكات المحتجين، خلال السِّت عشرة سنةً، بإنجاز تسيير المواكب وحرية التَّطبير واللَّطم، مثلما حاول خُطباء الجُمع إلهاءهم بضرورة الحرب على أعداء الدِّين.
اغتيل واعتقل شباب تظاهرات(2011)، وكانت التُّهمة «بعثية»، ثم أُضيف إليها أعداء التَّجربة «الإسلامية»، والآن استجدت تهمة «الصّهيونية»، متوافقة مع ظهور «المقاومة الإسلاميَّة» داخل العِراق. فالسَّفير الإيراني صرح بضرب أميركا مِن العِراق، وكأن أرض العراق صوافي له ولسادته، والصَّوافي «الأرض جلا عنها أهلُّها أو ماتوا ولا وراث لها»(ابن منظور، لسان العرب)، أو حسب ما يعتقد أن الأرض ملك لنائب الإمام، فقد نُقل: «خلق الله آدم وأقطعه الدُّنيا قطيعةً، فما كان لآدم فلرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان لرسول الله فهو للأئمة...»(الحلي، شرائع الإسلام)، ونائب الأئمة الولي الفقيه! صدقوا أن هذا اللامعقول يجول في عقول أكثر المؤمنين بهذه الولاية.
نشب الفساد مخالبه، وصار تشييد الجسر أو شراء أدوات يُكلف أضعاف أضعاف التكلفة الحقيقيَّة، ومع التَّكاليف العاليَّة إلا أن التنفيذ إما لا وجود له أو رديء، والمقاولة الواحدة تنتقل بين طبقات، وكلّ طبقة تأخذ حصتها نزولاً، أو يتم شراء عقارات الدَّولة، ولكن مِن أموال مؤسساتها نفسها، مثلما حصل مع شراء جامعة ضخمة ببغداد، واغتصاب مطار المثنى، والإدارات المحلية بالمحافظات، ناهيك عن المنطقة الخضراء والجادرية.
كتب هلال بن المُحسن الصَّابئي(ت448ه)، كلفت إدارة المقتدر بالله(قُتل320هج) محققاً في شأن الفساد بمصر والشَّام، فاستقبله والي الخراج الحُسين بن أحمد الماذرائي(ت314هج)، استقبالاً باذخاً، وهو الوزير عليُّ بن عيسى(ت334هج)، فلما دخل على أصحاب الشَّأن، «صاح: اللُّصوص»! قال مفسراً العبارة لهم: «يا معشر النَّاس، اجتزتُ على جِسر قارون، فقدَّرتُ النَّفقة عليه عشرة دنانير، ووجدتُ العُمال(الولاة) يحتسبون عنه على السُّلطان ستين ألف دينار»! غير أن الماذرائي وضح له قدر المال الذي يوزعه رشىً على الكبار والصّغار(تُحفة الأمراء في تاريخ الوزراء).
كانت فترة المُقتدر العباسي(25 سنةً) ملأى بالفساد، كثرت فيها مصادرات الوزراء، تحت التَّعذيب وقتلهم، وكان يتحكم في الوضع جماعة مِن الخاصة يُسمّون بـ«السَّادة». كان السَّادة يعلون وزيراً ويحطون آخر، والحال كما هو اليوم للسادة اليد الطُّولى، تجدهم يلعنون الفاسدين ويؤيدون على خجل التَّظاهرات، لكنهم مجتمع محذور القرب مِن ماله المقدس، مصلحتهم بهذا النَّظام، فيوم قُتل المقتدر اعتُقل السَّادة، وبينهم والدة الخليفة، وأخرجوا الدَّفائن(أموال تحت الأرض).
يدخل الفساد في تشييد الجسور، واستيراد الأدوات الصّحية والأدوية، والأسلحة والمعدات الخاصة بالوقايَّة مِن التَّفجيرات، وكلَّها تهم حياة النَّاس. إنه فساد قاتل، وقاعدته تتوسع، وأدواته محميَّة. غير أنَّ مجتمع السَّادة، الذي فزع مِن تقرير كشف شيء مِن فسادها، وجدناها في خطابها تدين القتيل والقاتل، مما أطمئن قلب مرشحهم، فرد عليهم ببيان إعجاب: «أنتم صمام الأمان»! فأي أمان يا هذا!
عَرف البغاددة، في القرن الرَّابع الهجري، الاحتجاج، فإذا تأخرت أرزاق(معاشات) الجُند ثاروا على دار الخلافة، فإما يحدث انقلاب أو يضطر الخليفة القرض مِن الفاسدين أنفسهم، كي يحل الأزمة. أما اليوم فيبدو أن الساسة مطمئنون مِن عدم حصول انقلاب، أعطى الثروة مقابل حماية نظام السّادة والأحزاب المرتبطة بهم، والاكتفاء بتسمية القتلى شهداء! فتأملوا الآلات الضَّخمة التي تم استيرادها لقمع وقتل أبناء العشرينيات؟! وإذا لم تنفع ستفتح مخازن ميليشيات المقاومة الإسلاميَّة الإيرانية أبوابها، فكلَّ متظاهر، في عُرفهم، صهيوني، غير أن حكومات ستة عشر سنةً لم تجد مَن يصرخ بوجوههم. فمَن يحتج يريد النَّيل مِن «التّجربة الإسلاميَّة»، وإذا ظهر مِن أهل التقوى مؤيداً للمحتجين، فما هو إلا تخدير، مثلما حدث سابقاً، والرَّاجز يقول: «يا عَجباً للعجبِ العُجابِ/خمسةُ غربانٍ على غُرابِ»(المعري، الفصول والغايات)، الكلُّ غربان في الفساد وتدمير البلاد، وليُحقق في مكاتبهم الاقتصاديَّة، والعقارات التي استصفوها، ومناصب الأولاد والأصهار.
كانت مشاركة هذه السيدة- ومَن تضطر لبيع المناديل الورقية، على المارة والسَّيارات في قيظ بغداد اللاهب، لا بد أنها مُعدمة وتأنف الشَّحاذة- علامة فارقة في التَّظاهرات الأخيرة، التي أسفرت عن سقوط أكثر مِن ثلاثين قتيلاً وعشرات الجرحى، ومَن يُلحق به إلى المستشفى لاعتقاله.
«خرساء» أنطقها أزيز رصاص حماة اللُّصوص، ودماء الشَّباب القانيَّة. كأني أقرأ على كلِّ منديل وزعتها على الشَّباب بيت محمد مهدي الجواهري(ت1997): «أنا حتفُهم ألجُ البيوتَ عليهُم/أُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا».
*كاتب عراقي
بعد اتهام الشَّباب المتظاهرين بالبعثية والصّهيونية، مِن قِبل أصحاب الضَّمائر المأزومة، الخائفين على عرش الولي الفقيه الإيراني يتزلزل داخل العراق، تبدو بائعة المناديل المتجولة الخرساء متهمة ضمناً، فهي ترى الفساد والخراب العام، بينما هم يرون الماء الآسن عذباً إذا اختلط بتعاليم الولي الفقيه، أما الفساد والخراب الشَّامل فجميعه مِن اختلاق البعثيين والصَّهاينة!
لقد وضعت هذه الانتفاضة الشَّبابية حداً لأوهام مَن اعتقد أن الدِّين والمذهب حاميان لهذا النِّظام، فكم مِن خطيب منبر حاول إسكات المحتجين، خلال السِّت عشرة سنةً، بإنجاز تسيير المواكب وحرية التَّطبير واللَّطم، مثلما حاول خُطباء الجُمع إلهاءهم بضرورة الحرب على أعداء الدِّين.
اغتيل واعتقل شباب تظاهرات(2011)، وكانت التُّهمة «بعثية»، ثم أُضيف إليها أعداء التَّجربة «الإسلامية»، والآن استجدت تهمة «الصّهيونية»، متوافقة مع ظهور «المقاومة الإسلاميَّة» داخل العِراق. فالسَّفير الإيراني صرح بضرب أميركا مِن العِراق، وكأن أرض العراق صوافي له ولسادته، والصَّوافي «الأرض جلا عنها أهلُّها أو ماتوا ولا وراث لها»(ابن منظور، لسان العرب)، أو حسب ما يعتقد أن الأرض ملك لنائب الإمام، فقد نُقل: «خلق الله آدم وأقطعه الدُّنيا قطيعةً، فما كان لآدم فلرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان لرسول الله فهو للأئمة...»(الحلي، شرائع الإسلام)، ونائب الأئمة الولي الفقيه! صدقوا أن هذا اللامعقول يجول في عقول أكثر المؤمنين بهذه الولاية.
نشب الفساد مخالبه، وصار تشييد الجسر أو شراء أدوات يُكلف أضعاف أضعاف التكلفة الحقيقيَّة، ومع التَّكاليف العاليَّة إلا أن التنفيذ إما لا وجود له أو رديء، والمقاولة الواحدة تنتقل بين طبقات، وكلّ طبقة تأخذ حصتها نزولاً، أو يتم شراء عقارات الدَّولة، ولكن مِن أموال مؤسساتها نفسها، مثلما حصل مع شراء جامعة ضخمة ببغداد، واغتصاب مطار المثنى، والإدارات المحلية بالمحافظات، ناهيك عن المنطقة الخضراء والجادرية.
كتب هلال بن المُحسن الصَّابئي(ت448ه)، كلفت إدارة المقتدر بالله(قُتل320هج) محققاً في شأن الفساد بمصر والشَّام، فاستقبله والي الخراج الحُسين بن أحمد الماذرائي(ت314هج)، استقبالاً باذخاً، وهو الوزير عليُّ بن عيسى(ت334هج)، فلما دخل على أصحاب الشَّأن، «صاح: اللُّصوص»! قال مفسراً العبارة لهم: «يا معشر النَّاس، اجتزتُ على جِسر قارون، فقدَّرتُ النَّفقة عليه عشرة دنانير، ووجدتُ العُمال(الولاة) يحتسبون عنه على السُّلطان ستين ألف دينار»! غير أن الماذرائي وضح له قدر المال الذي يوزعه رشىً على الكبار والصّغار(تُحفة الأمراء في تاريخ الوزراء).
كانت فترة المُقتدر العباسي(25 سنةً) ملأى بالفساد، كثرت فيها مصادرات الوزراء، تحت التَّعذيب وقتلهم، وكان يتحكم في الوضع جماعة مِن الخاصة يُسمّون بـ«السَّادة». كان السَّادة يعلون وزيراً ويحطون آخر، والحال كما هو اليوم للسادة اليد الطُّولى، تجدهم يلعنون الفاسدين ويؤيدون على خجل التَّظاهرات، لكنهم مجتمع محذور القرب مِن ماله المقدس، مصلحتهم بهذا النَّظام، فيوم قُتل المقتدر اعتُقل السَّادة، وبينهم والدة الخليفة، وأخرجوا الدَّفائن(أموال تحت الأرض).
يدخل الفساد في تشييد الجسور، واستيراد الأدوات الصّحية والأدوية، والأسلحة والمعدات الخاصة بالوقايَّة مِن التَّفجيرات، وكلَّها تهم حياة النَّاس. إنه فساد قاتل، وقاعدته تتوسع، وأدواته محميَّة. غير أنَّ مجتمع السَّادة، الذي فزع مِن تقرير كشف شيء مِن فسادها، وجدناها في خطابها تدين القتيل والقاتل، مما أطمئن قلب مرشحهم، فرد عليهم ببيان إعجاب: «أنتم صمام الأمان»! فأي أمان يا هذا!
عَرف البغاددة، في القرن الرَّابع الهجري، الاحتجاج، فإذا تأخرت أرزاق(معاشات) الجُند ثاروا على دار الخلافة، فإما يحدث انقلاب أو يضطر الخليفة القرض مِن الفاسدين أنفسهم، كي يحل الأزمة. أما اليوم فيبدو أن الساسة مطمئنون مِن عدم حصول انقلاب، أعطى الثروة مقابل حماية نظام السّادة والأحزاب المرتبطة بهم، والاكتفاء بتسمية القتلى شهداء! فتأملوا الآلات الضَّخمة التي تم استيرادها لقمع وقتل أبناء العشرينيات؟! وإذا لم تنفع ستفتح مخازن ميليشيات المقاومة الإسلاميَّة الإيرانية أبوابها، فكلَّ متظاهر، في عُرفهم، صهيوني، غير أن حكومات ستة عشر سنةً لم تجد مَن يصرخ بوجوههم. فمَن يحتج يريد النَّيل مِن «التّجربة الإسلاميَّة»، وإذا ظهر مِن أهل التقوى مؤيداً للمحتجين، فما هو إلا تخدير، مثلما حدث سابقاً، والرَّاجز يقول: «يا عَجباً للعجبِ العُجابِ/خمسةُ غربانٍ على غُرابِ»(المعري، الفصول والغايات)، الكلُّ غربان في الفساد وتدمير البلاد، وليُحقق في مكاتبهم الاقتصاديَّة، والعقارات التي استصفوها، ومناصب الأولاد والأصهار.
كانت مشاركة هذه السيدة- ومَن تضطر لبيع المناديل الورقية، على المارة والسَّيارات في قيظ بغداد اللاهب، لا بد أنها مُعدمة وتأنف الشَّحاذة- علامة فارقة في التَّظاهرات الأخيرة، التي أسفرت عن سقوط أكثر مِن ثلاثين قتيلاً وعشرات الجرحى، ومَن يُلحق به إلى المستشفى لاعتقاله.
«خرساء» أنطقها أزيز رصاص حماة اللُّصوص، ودماء الشَّباب القانيَّة. كأني أقرأ على كلِّ منديل وزعتها على الشَّباب بيت محمد مهدي الجواهري(ت1997): «أنا حتفُهم ألجُ البيوتَ عليهُم/أُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا».
*كاتب عراقي