خلال بضعة أيام استثنائية من الأخبار السياسية على جانبي الأطلسي، كان من السهل عدم الانتباه إلى ثورة هادئة. فقد دعم مؤتمر حزب العمال الذي عقد في بلدة برايتون البريطانية الساحلية الأسبوع الماضي، واحدةً من الأجندات الاقتصادية الأكثر راديكالية في العالم الديمقراطي، وهي أجندة تتراوح من 32 ساعة عمل في الأسبوع وسقف للإيجارات الخاصة، إلى إنشاء شركة عمومية للأدوية، وتشريع يحمي النساء اللائي بلغن «سن اليأس».
ولا شك أنه بالإمكان ملاحظة بعض الأفكار الجيدة في تلك الأجندة، لكنها عموماً تثير تخوفين مباشرين اثنين وسؤالاً ملحاً واحداً: كيف سيتم تمويل مثل هذه السياسات الاشتراكية؟ وما حجم الأضرار التي ستُلحقها بالاقتصاد؟ وما الذي سيجعل هذه التجربة مختلفة، بالنظر إلى أن التجارب السابقة لسيطرة الحكومة كانت فاشلة؟
الواقع أنه من الصعب الاختلاف مع سياسات تروم زيادة عدد الأطباء المتدربين، ومعالجة الاختلالات الكبيرة في النظام القضائي، وتحسين وضع طالبي اللجوء، وتسريع الانتقال للمركبات الكهربائية.. غير أن هذه الحزمة تذهب أبعد مما يذهب إليه أي شيء اقترحه بيرني ساندرز في الولايات المتحدة أو جون لوك ميلينشون في فرنسا. وكونها استُقبلت من دون ضجة كبيرة إنما يُظهر إلى أي حد تجذرت الراديكالية في الحزبين البريطانيين الرئيسيين. كما يعود ذلك إلى مهارة أحد المهندسين الرئيسيين للبرنامج السياسي العمالي، ألا وهو جون ماكدونل الذي يُعد صديقاً وحليفاً قديماً لكوربن.
غير أن الرغبة في مساعدة الفقراء وتخفيف التفاوت الاجتماعي شيء، والنظر إلى الثروة على أنها شر مستطير شيء آخر. فكيف يمكن تقليص الفقر وتحسين الإنتاجية من دون استثمار القطاع الخاص وثقته؟ إنها حجة قديمة ضد السياسات الاقتصادية الاشتراكية، لكن الكوربنية -نسبة لسياسات كوربن- تبدو جديدة بالنسبة لمن هم دون الأربعين ممن ضاقوا ذرعاً بالعجز عن توفير ثمن سكن أو إيجاد عمل آمن.
إن الخطر لا يكمن فقط في حقيقة أن هذه السياسات يمكن أن تعيق أحد أنشط الاقتصادات في العالم، بل المأساة الأكبر هي أنها ستفاقم المشاكل نفسها التي يريد «العمال» معالجتها.
ولنأخذ قطاع الأدوية مثلاً، فلا شك أن الدوافع لصنع أدوية جديدة رخيصة ومتاحة على نطاق واسع هي دوافع حسنة، ذلك أن نحو 78% من الأدوية المرتبطة ببراءات اختراع جديدة ليست عقاقير جديدة، وفق أبحاث أستاذ القانون روبن فلدمان. فالشركات تتلاعب بنظام براءات الاختراع. لكن إنفاق المليارات من جنيهات دافعي الضرائب على شركة عمومية لصنع الأدوية قد يمثل هدراً للمال العام. كما أن من شأن الترخيص الإجباري لبحث جديد أن يقلل من قيمة الملكية الفكرية ويثني عن الابتكار، وربما يبعد الاستثمارات عن بريطانيا.
ومن جهة أخرى، فإن هدف 2030 بخصوص انبعاثات الكربون قد يبدو مفرطاً في الحماس، لكن كل الخبراء الجادين يكادون يجمعون على أنه غير قابل للتطبيق. بل إن حتى حزب العمال نفسه كانت له شكوك بشأن تأثيره على الوظائف: وتكفي الإشارة هنا إلى أن نقابة «جي إم بي» التي تمثّل عمال قطاع الوقود الأحفوري رفضت دعم هذا الهدف.
أما بالنسبة لهدف 32 ساعة عمل في الأسبوع، فينبغي النظر إلى فرنسا ونسختها من الـ 35 ساعة عمل في الأسبوع. فالفرنسيون تبنوا سقفاً مبنياً على الأيديولوجيا لساعات العمل، وبعد ذلك أمضوا سنوات من أجل إعادة النظر فيه والعدول عنه بسبب تأثيره السلبي على التنافسية.
وفي هذا الأثناء، تشير تقديرات كليفورد تشانس إلى أن من شأن مخطط حزب العمال لمنح الموظفين حصة في الملكية أن يكلّف المستثمرين أكثر من 300 مليار جنيه إسترليني، علماً بأن الكثير من أولئك المستثمرين هم من البريطانيين المتقاعدين.
حزب العمال يفند هذه الحجج المضادة، غير أنه لا يقدم في الواقع سوى تدابير للتخفيف من التأثير السلبي لسياساته الراديكالية. لكن، هل ينبغي أن نتعامل مع هذه المخططات الكبرى بجدية؟ حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون ما زال متقدماً في استطلاعات الرأي، وإنْ كان ذلك لا يعني بالضرورة مقاعد في البرلمان. ومن جهة أخرى، فإن الحزبان الكبيران متعادلان تقريباً. ومن غير الواضح إنْ كان أي منهما سيحصل على الـ 326 صوتاً الضرورية للفوز بأغلبية واضحة. ولا شك أنه من الممكن أن يفوز حزب العمال بما يكفي من المقاعد لتشكيل حكومة مع حزب أو أكثر من الأحزاب الأصغر. غير أن الاتجاه الواضح الوحيد في بريطانيا الآن هو الاستقطاب. ومثلما ذهب جونسون بعيداً في رسالته بشأن بريكست القائمة على فكرة «الفوز أو الموت»، ذهب حزب كوربن العمالي إلى حد بعيد في الثورة (البرلمانية). ورهانه هو عودة الأيديولوجيا. وخلاصة القول هي أن الانتخابات قادمة وهناك أشياء أكثر خطراً من البريكست.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
ولا شك أنه بالإمكان ملاحظة بعض الأفكار الجيدة في تلك الأجندة، لكنها عموماً تثير تخوفين مباشرين اثنين وسؤالاً ملحاً واحداً: كيف سيتم تمويل مثل هذه السياسات الاشتراكية؟ وما حجم الأضرار التي ستُلحقها بالاقتصاد؟ وما الذي سيجعل هذه التجربة مختلفة، بالنظر إلى أن التجارب السابقة لسيطرة الحكومة كانت فاشلة؟
الواقع أنه من الصعب الاختلاف مع سياسات تروم زيادة عدد الأطباء المتدربين، ومعالجة الاختلالات الكبيرة في النظام القضائي، وتحسين وضع طالبي اللجوء، وتسريع الانتقال للمركبات الكهربائية.. غير أن هذه الحزمة تذهب أبعد مما يذهب إليه أي شيء اقترحه بيرني ساندرز في الولايات المتحدة أو جون لوك ميلينشون في فرنسا. وكونها استُقبلت من دون ضجة كبيرة إنما يُظهر إلى أي حد تجذرت الراديكالية في الحزبين البريطانيين الرئيسيين. كما يعود ذلك إلى مهارة أحد المهندسين الرئيسيين للبرنامج السياسي العمالي، ألا وهو جون ماكدونل الذي يُعد صديقاً وحليفاً قديماً لكوربن.
غير أن الرغبة في مساعدة الفقراء وتخفيف التفاوت الاجتماعي شيء، والنظر إلى الثروة على أنها شر مستطير شيء آخر. فكيف يمكن تقليص الفقر وتحسين الإنتاجية من دون استثمار القطاع الخاص وثقته؟ إنها حجة قديمة ضد السياسات الاقتصادية الاشتراكية، لكن الكوربنية -نسبة لسياسات كوربن- تبدو جديدة بالنسبة لمن هم دون الأربعين ممن ضاقوا ذرعاً بالعجز عن توفير ثمن سكن أو إيجاد عمل آمن.
إن الخطر لا يكمن فقط في حقيقة أن هذه السياسات يمكن أن تعيق أحد أنشط الاقتصادات في العالم، بل المأساة الأكبر هي أنها ستفاقم المشاكل نفسها التي يريد «العمال» معالجتها.
ولنأخذ قطاع الأدوية مثلاً، فلا شك أن الدوافع لصنع أدوية جديدة رخيصة ومتاحة على نطاق واسع هي دوافع حسنة، ذلك أن نحو 78% من الأدوية المرتبطة ببراءات اختراع جديدة ليست عقاقير جديدة، وفق أبحاث أستاذ القانون روبن فلدمان. فالشركات تتلاعب بنظام براءات الاختراع. لكن إنفاق المليارات من جنيهات دافعي الضرائب على شركة عمومية لصنع الأدوية قد يمثل هدراً للمال العام. كما أن من شأن الترخيص الإجباري لبحث جديد أن يقلل من قيمة الملكية الفكرية ويثني عن الابتكار، وربما يبعد الاستثمارات عن بريطانيا.
ومن جهة أخرى، فإن هدف 2030 بخصوص انبعاثات الكربون قد يبدو مفرطاً في الحماس، لكن كل الخبراء الجادين يكادون يجمعون على أنه غير قابل للتطبيق. بل إن حتى حزب العمال نفسه كانت له شكوك بشأن تأثيره على الوظائف: وتكفي الإشارة هنا إلى أن نقابة «جي إم بي» التي تمثّل عمال قطاع الوقود الأحفوري رفضت دعم هذا الهدف.
أما بالنسبة لهدف 32 ساعة عمل في الأسبوع، فينبغي النظر إلى فرنسا ونسختها من الـ 35 ساعة عمل في الأسبوع. فالفرنسيون تبنوا سقفاً مبنياً على الأيديولوجيا لساعات العمل، وبعد ذلك أمضوا سنوات من أجل إعادة النظر فيه والعدول عنه بسبب تأثيره السلبي على التنافسية.
وفي هذا الأثناء، تشير تقديرات كليفورد تشانس إلى أن من شأن مخطط حزب العمال لمنح الموظفين حصة في الملكية أن يكلّف المستثمرين أكثر من 300 مليار جنيه إسترليني، علماً بأن الكثير من أولئك المستثمرين هم من البريطانيين المتقاعدين.
حزب العمال يفند هذه الحجج المضادة، غير أنه لا يقدم في الواقع سوى تدابير للتخفيف من التأثير السلبي لسياساته الراديكالية. لكن، هل ينبغي أن نتعامل مع هذه المخططات الكبرى بجدية؟ حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون ما زال متقدماً في استطلاعات الرأي، وإنْ كان ذلك لا يعني بالضرورة مقاعد في البرلمان. ومن جهة أخرى، فإن الحزبان الكبيران متعادلان تقريباً. ومن غير الواضح إنْ كان أي منهما سيحصل على الـ 326 صوتاً الضرورية للفوز بأغلبية واضحة. ولا شك أنه من الممكن أن يفوز حزب العمال بما يكفي من المقاعد لتشكيل حكومة مع حزب أو أكثر من الأحزاب الأصغر. غير أن الاتجاه الواضح الوحيد في بريطانيا الآن هو الاستقطاب. ومثلما ذهب جونسون بعيداً في رسالته بشأن بريكست القائمة على فكرة «الفوز أو الموت»، ذهب حزب كوربن العمالي إلى حد بعيد في الثورة (البرلمانية). ورهانه هو عودة الأيديولوجيا. وخلاصة القول هي أن الانتخابات قادمة وهناك أشياء أكثر خطراً من البريكست.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»